قتل الناطور الحمامة
๑۩۩๑ المملكـــــــــــة الأدبيــــــــــــة ๑۩۩๑ :: أقـــــلام نـشـــطــة :: عندما تغفو الشموس قليلا / لنا عودة :: الأديب والشاعر والفنان السوري صبري يوسف
صفحة 1 من اصل 1
قتل الناطور الحمامة
قتل الناطور الحمامة
في زاويةٍ منفيّة من هذا العالم، انزويتُ في ركنٍ من أركان غرفتي الّتي أكلها الزمن. الأرض حزينة للغاية. تأمَّلْتُ وجه والدتي العجوز. عندما لاحظَتْ أمّي انّني أمعن النظر فيها، اقتربَتْ منّي ثمَّ قالت:
ما بكَ يابني؟ .. انّني أرى على سيماءِ وجهكَ علامات الحيرة، وعلى جبينكَ وصدغيكَ تداخلَتْ خيوط الحزن.
لم أفتح فاهي بكلمة .. كلّ شيء من حولي صامتٌ، سوى دقّات الساعة المغبرّة على الحائطِ ودقّات القلب.
وفيما كنتُ أتأمَّلُ وجه أمّي، قطعَت الساعة تأمُّلاتي .. زادتني تشوُّشاً وذكَّرتني بالأيام القاسية وبالزمن الّذي لا يرحم حتّى الأجنّة.
.. الأيّام تُطوى والأسابيع تمرُّ سريعة وثقيلة .. والساعة المغبرّة على الجدار يجترُّ الصمتُ موسيقى دقّاتها، الشهور تؤلم ذاكرتي والسنونُ تمتصُّ من جسدي رحيق العمر!
اقتربتُ من النافذة الوحيدة .. كان يهيمنُ عليَّ شعورٌ بالألمِ تجاه المحيط المغلَّف بالغبار القاتل. مدَدْتُ يدي إلى كوب من الماء.. كنتُ ظمآناً جدّاً. أمسكتُ الكوب بشيءٍ من الأسى، شردْتُ قليلاً .. سقطَ الكوب من يدي وتدفَّقَ الماء هنا وهناك وتناثرت قطراته على بطانيّة ممزقة وملوَّنة برُقَعٍ خاطتْها أمّي منذ زمنٍ بعيد.
هرعَتْ أمِّي نحوي متسائلةً: ماذا بكَ يابنيّ؟ .. انّي أراكَ حزيناً جدّاً، وتبدو كغيرعادتكَ. اغرورقَتْ عيناي بالدموع، وسرعان ما جفَّتْ في المقلتين! .. حتّى الدموع لا تأخذ نصيبها عندي كاملاً. لم أجب بكلمة واحدة .. اكتفيتُ أن يكون جوابي الدمعتان المعلّقتان في المقلتين.
خيَّمَ علينا صمتٌ مطبق. حرَّكْتُ رأسي مثل أرجوحة تحرِّكها رياح هادئة، كانت أُمِّي تنظر إليَّ بعينينِ حزينتينِ .. وكنتُ أتألَّمُ لحالها وحالي .. وشعرْتُ أنَّ الألمَ تبرعمَ في قلبها منذ سنوات بعيدة، ونما شيئاً فشيئاً إلى أن تجذَّر في أعماقها وغدا من الصعبِ عليها أن تستأصِلَ هذا الألم الدفين. وراودني أحياناً كثيرة أنّني ( توارثْتُ ) عنها الألم .. وإلا فما هذا الأنين المكتظّ حول سفوحِ ( القلب )! .. ارتجفَتْ شفتاي ثمَّ نبرتُ سائلاً إيّاها:
لماذا جئتُ إلى العالم يا أمّاه؟
نظرَتْ إليَّ بأسى وانتابها شعوراً غريباً تجّاهي، وتفاجأَتْ عندما وجدَتْني أسألها سؤالاً كهذا. ظلَّتْ صامتة لا تقطعُ نظرها عنِّي. هزَزْتُ رأسي ممعناً النظر في صورة معلَّقة على الحائطِ في صدرِ الغرفةِ. كانت الصورة تعودُ لسنواتٍ عديدة خَلَتْ. انّها صورة لبحر كبير يبدو بلا نهاية. تتلاطم أمواجه بعنف وفي منتصف البحر تقريباً سفينة مكسورة الشراع .. تصارعُ الأمواج، كان الملاحون يقاومون الأمواج ويحاولون ببسالة أن يوصلوا سفينتهم إلى الشاطئِ بأمان.
وفيما كنتُ مستغرقاً في اللوحة، اقتربَت أمِّي نحوي ووضعَتْ يدها على رأسي وهي صامتة .. ثمَّ قلتُ لها: عانقيني يا أمّاه عناقاً طويلاً. كم شعرتُ بالاطمئنان وأنا مرتمٍ بين أحضانها. وبعد أن غمرتني بحنانها العميق، كرَّرْتُ عليها سؤالي: ( لماذا جئتُ إلى العالم يا أمّاه؟ ).
حدّقَتْ بي بإمعان ثمَّ أجابَتْ:
انّنا لم نأتِ إلى العالم باختيارنا الحرّ يا بنيّ، وكلّ البشر لم يأتوا إلى العالم باختيارهم، و ..
( قاطعتها ) .. عفواً يا أمِّي .. أعلم أنّنا لم نأتِ إلى العالم باختيارنا الحرّ، أعلم هذا جيّداً .. لكنّي أقصدُ شيئاً آخر، فأنا وأنتِ وآخرين ممَّن تشبه أحوالهم أحوالنا، نحن الّذين ارتشفنا المرارات الملوّنة منذ زمنٍ بعيد، ما هو هدفنا في الحياة؟ .. ولماذا جئنا أصلاً للحياة؟ .. هل جئنا من أجل مراراتها فقط؟ .. آهٍ .. لو تعلمي كم مرّة أشعر يوميّاً وكأنّ قلبي يتوقّف عن الخفقان! .. انّني أرى هذا العالم الكبير صغيراً للغاية، انّه يحاصرني ويخنقني دونما رحمة .. انّني أشعر وكأنّني غارقٌ في سراديب معتمة لا تنتهي.
لماذا لا نخرجُ يا أمّاه إلى النور؟ .. لماذا نغرقُ هكذا في الظلام الدامس ويحاول ( بعضهم ) أن نبقى دائماً في الظلمة الداكنة، بعيداً عن توهُّجات الشمس الدافئة؟
أيّ ظلامٍ تتحدَّثُ عنه يا بنيّ؟ ..
أنّه ظلام القرن العشرين يا أمّاه! .. هذا الظلام الذّي تفاقمَ نتيجة ( جهل ) الإنسان وغوصه في فنون الدمار، مستغلاً النور الباهر، لتعمية أخيه الإنسان .. تاركاً خلف ظهره أخلاقيات قرون من الزمان تحترقُ في رابعةِ النهار!
.. لا أحبُّ نوراً يبهر عيوننا. انظري يا أمّي .. ها أنذا أرى تجاعيد وجهك بوضوح. انظري إلى ذلكِ القنديل .. انّه يصدر نوراً خافتاً مع ذلكَ نرى بعضنا بوضوح. يا له من نورٍ مريح! .. إنّنا لو عشنا على القناديل بأمان، أفضل من أن نعيش على النور الباهر .. هذا ( النور ) الّذي منه تنبثق شرارات تعمي العيون تارةً وتحرقُ اخضرار الزيتون تارةً أخرى.
لماذا لا ينشد الإنسان أُنشودة المطر؟ .. كم أنا بشوق يا أمَّاه إلى خبزِ التنّور!.. آهٍ .. لو كان بيدي سيف حادّ! .. ناطوري أكلَ عنبي وخبزي، انّي أريدُ أن أقتلَ الناطور. أوَّل البارحة رأيتُ ناطورنا يذبحُ عصافير الخميلة ثمَّ رماها في ساقية ضحلة. وعندما وجدني مغتاظاً، هدَّدني قائلاً:
لو تفوَّهْت بكلمة واحدة سيكون مصيركَ كمصيرِ العصافير!
هل تسمعيني يا أمَّاه؟
هزَّت الأمّ رأسها وقالت: أيوه يا بني انّي أسمعكَ جيّداً.
آهٍ .. لو تعلمي كم من الهموم تجمَّعَت في رأسي، إنَّ هموماً لا تحصى تعشعشُ في رأسي الصغير، ولكي أقضي على هموم العالم، لا بدَّ أن أفصلَ رأسي عن جسدي! .. ( جحظَتْ عينا الأمّ منذهلةً ) .. ثمَّ قالت:
أيُّ ناطور تتحدَّثُ عنه؟ .. ومن أينَ لكَ كلّ هذه الهموم وأنت ما تزالُ في باكورة العمر؟
أيُّ عمر تتحدَّثينَ عنه يا أمّي؟ ؟.. وهل تسمّين الحياة التي عشتها عمراً؟ .. الأحد الماضي رأيتُ حمامة بيضاء، كانت تحلِّقُ فوق أرضنا الفسيحة، حاملة غصن الزيتون. وفجأةً شاهدتُ ناطورنا من بعيد يتَّجهُ نحوها ومعهُ مجموعة ( هائلة ) من كلاب الصيد .. ( قلبي يتمزَّقُ يا أمّي! ) .. طوَّقَ الناطور بمساعدة ( الكلاب ) الحمامة ثمَّ أمسكها ورمى غصن الزيتون بعيداً، ثمَّ اقتادها بعنف، وزجَّها في السجن، متذرِّعاً بأنَّها كانت تثير الفتن والمشاكل، وكانت عائقاً في طريق النور الّذي كان ينشده الناطور.
هل وجدْتِ يا أمّي في تاريخكِ حمامة تثير الفتن والمشاكل؟ .. لماذا عيناكِ جاحظتان تحدِّقان في تلك اللوحة المرسومة على الجدار؟!
كانت أمِّي ذاهلة، تصغي إليّ بامعان، فتابعْتُ أروي لها ما رأته عيناي:
الربيع الماضي رأيتُ الأقاحي تبكي بكاءً مرّاً .. ( آهٍ .. رأسي يدور! ) .. لماذا أقاحي الآخرين لا تبكي وأقاحينا يلفَّها البكاء والأنين؟ .. هل تعلمينَ يا أمّي، انّي شاهدتُ ناطورنا حاملاً عصاه الغليظة مخاطباً الأقاحي الباكية، محاولاً تهدئتها قائلاً لها:
لا تبكي أيّتها الأقاحي الجميلة، أعرف أنَّكم حزانى على مصير الحمام .. ولكن (أنتم) ، لا تقلقوا على مصيركم ومستقبلكم .. سأحقّقُ لكم ما تريدون، انّي أخطِّطُ لمستقبلكم (الزاهر) .. غداً أو بعد غد سأعطي توجيهاتي للمعنيين بالأمر، كي نبني لكم بيوتاً من الثلج! .. نعم بيوتاً من الثلج، ولو شعرتم بالبرد لا تخافوا، اتّصلوا معي مباشرةً ..كلمح البصر سأكون عندكم، وسأفضي لكم سرّاً من أسرار الطبيعة. سأعلّكم كيف تتأقلمون مع برودة الثلج، والبرد (يا أعزّائي) له نكهة خاصّة، وحالما تتعوَّدون عليه ستشعرون بهذه النكهة. وسأجلب لكم ماءاً مقطَّراً ، لو وجدتموه أحمر اللون، لا تخافوا .. اشربوه. انّه معقَّم! ولو وجدتموه مرّاً فلا تخشوا الخطر .. (سوف تتعوَّدون عليه مع مرور الأيام)..ستشعرون بعد فترة انّه لذيذ رغم مرارته!.. ولا تندهشوا ممّا أقول، لأنّ كل شيء جائز هذه الأيام .. وكلّ هذه (المرارات اللذيذة) لها علاقة بالتأقلم .. فكلّما أصغيتم إليّ ونفذّتم كلّ ما أقوله لكم ، ستشعرونَ بلذة الحياة (رغم مراراتها) .. وأريد أن أصارحكم وأقول لكم: أنّ سبب دخول الحمامة إلى السجن هو: أنّها لم تحاول أن تتأقلمَ مع برودة الثلج، ولم تعوِّد نفسها على شرب الماء (المقطَّر!) .. وكانت دائماً تقول: (إنَّ هذا الماء الّذي نشربه له مذاق غريب ومراراته غير قابلة للاحتمال) .. وكانت تستنكر برودة الثلج، مع العلم انني مراراً وتكراراً نصحتها وقلتُ لها: سوف تتعوَّدينَ على هذه البرودة مع مرور الزمن، إلا أنّها ما كانت تصغي إلى (توجيهاتي) .. وقد ضبطتها في إحدى المرّات، وهي توشوشُ في أذن أحد العصافير قائلة له:
"لا تشربْ من هذا الماء الملوَّث، انّكَ لو شربتَ منه ستحمرُّ عيونكَ، وسوف لن ترى لمسافات طويلة .. ويقال أنّ هذا الماء الملوَّث يؤثر على الأجنحة وفروة الرأس".
عندما سمعتُ ما قالته الحمامة للعصفور، خرجتُ عن طوعي واضطررت أن أوقفها عند حدَّها .. ووجدتُ من الأفضل أن أسجنها، لئلا تثير المزيد من القلاقل والفتن فيما بينكم .. وأنا أريد أن أحافظَ على مصلحتكم يا أيّتها الأقاحي (الكرام) .. وأحيطكم علماً بأنَّ لديّ مخطَّطاً هامّاً ومفيداً لكم .. ولا أخفي عليكم أنني بعد فترة سألتقي مع أحدِ النواطير ، صحيح أنَّ هذا الناطور ليس من بني جلدتنا، ولكن أوعدكم بأنَّ مخطَّطاتي معه ستسفر عن فوائد كثيرة، أهمّها: الحصول على حمامة (غريبة وعجيبة) .. سأجلب لكم حمامة سوداء مثل الفحم! .. ومن الآن أقول لكم:
لا تخافوا من سوادها الفاحم! .. سوف تتعوَّدون عليه، وأريد أن أبلِّغكم ـ من الآن ـ أن سوادها يجلب الحظّ .. أيوه يجلب الحظّ .. وأنّها لا تهدل مثل الحمام، وإنّما تنعق نعيقاً خارجاً عن المألوف .. وبصراحة نحنُ بحاجة ماسّة في الوقت الراهن، إلى هكذا نوع من أنواع النعيق .. لأنّنا مللنا من هديل الحمام الناعم، ولا أخفي عليكم أن هديل الحمام المتعارف عليه، أصبح [الآن] شيئاً عتيقاً، ولا بدَّ أن نستبدل كل ما هو عتيق لمواكبة مسيرة (النعيق والاسوداد!).
أستودعكم على خير .. وسوف لن أتأخّرَ عليكم .. سأعود إليكم قريباً .. وسأجلبُ لكم الحظّ الّذي وعدتكم به، (حمامة) سوداء تنعق نعيقاً متواصلاً أثناء الليل.
.. كانت الأمُّ تصغي بانذهال إلى ما يقوله ابنها على لسان الناطور. وبعد أيامٍ قليلة لم تستطِعْ الأمّ أن تجدَ سبيلاً للنوم، لأنّها كانت تسمعُ نعيقاً مخيفاً يملأ سكونَ الليل!!
ما بكَ يابني؟ .. انّني أرى على سيماءِ وجهكَ علامات الحيرة، وعلى جبينكَ وصدغيكَ تداخلَتْ خيوط الحزن.
لم أفتح فاهي بكلمة .. كلّ شيء من حولي صامتٌ، سوى دقّات الساعة المغبرّة على الحائطِ ودقّات القلب.
وفيما كنتُ أتأمَّلُ وجه أمّي، قطعَت الساعة تأمُّلاتي .. زادتني تشوُّشاً وذكَّرتني بالأيام القاسية وبالزمن الّذي لا يرحم حتّى الأجنّة.
.. الأيّام تُطوى والأسابيع تمرُّ سريعة وثقيلة .. والساعة المغبرّة على الجدار يجترُّ الصمتُ موسيقى دقّاتها، الشهور تؤلم ذاكرتي والسنونُ تمتصُّ من جسدي رحيق العمر!
اقتربتُ من النافذة الوحيدة .. كان يهيمنُ عليَّ شعورٌ بالألمِ تجاه المحيط المغلَّف بالغبار القاتل. مدَدْتُ يدي إلى كوب من الماء.. كنتُ ظمآناً جدّاً. أمسكتُ الكوب بشيءٍ من الأسى، شردْتُ قليلاً .. سقطَ الكوب من يدي وتدفَّقَ الماء هنا وهناك وتناثرت قطراته على بطانيّة ممزقة وملوَّنة برُقَعٍ خاطتْها أمّي منذ زمنٍ بعيد.
هرعَتْ أمِّي نحوي متسائلةً: ماذا بكَ يابنيّ؟ .. انّي أراكَ حزيناً جدّاً، وتبدو كغيرعادتكَ. اغرورقَتْ عيناي بالدموع، وسرعان ما جفَّتْ في المقلتين! .. حتّى الدموع لا تأخذ نصيبها عندي كاملاً. لم أجب بكلمة واحدة .. اكتفيتُ أن يكون جوابي الدمعتان المعلّقتان في المقلتين.
خيَّمَ علينا صمتٌ مطبق. حرَّكْتُ رأسي مثل أرجوحة تحرِّكها رياح هادئة، كانت أُمِّي تنظر إليَّ بعينينِ حزينتينِ .. وكنتُ أتألَّمُ لحالها وحالي .. وشعرْتُ أنَّ الألمَ تبرعمَ في قلبها منذ سنوات بعيدة، ونما شيئاً فشيئاً إلى أن تجذَّر في أعماقها وغدا من الصعبِ عليها أن تستأصِلَ هذا الألم الدفين. وراودني أحياناً كثيرة أنّني ( توارثْتُ ) عنها الألم .. وإلا فما هذا الأنين المكتظّ حول سفوحِ ( القلب )! .. ارتجفَتْ شفتاي ثمَّ نبرتُ سائلاً إيّاها:
لماذا جئتُ إلى العالم يا أمّاه؟
نظرَتْ إليَّ بأسى وانتابها شعوراً غريباً تجّاهي، وتفاجأَتْ عندما وجدَتْني أسألها سؤالاً كهذا. ظلَّتْ صامتة لا تقطعُ نظرها عنِّي. هزَزْتُ رأسي ممعناً النظر في صورة معلَّقة على الحائطِ في صدرِ الغرفةِ. كانت الصورة تعودُ لسنواتٍ عديدة خَلَتْ. انّها صورة لبحر كبير يبدو بلا نهاية. تتلاطم أمواجه بعنف وفي منتصف البحر تقريباً سفينة مكسورة الشراع .. تصارعُ الأمواج، كان الملاحون يقاومون الأمواج ويحاولون ببسالة أن يوصلوا سفينتهم إلى الشاطئِ بأمان.
وفيما كنتُ مستغرقاً في اللوحة، اقتربَت أمِّي نحوي ووضعَتْ يدها على رأسي وهي صامتة .. ثمَّ قلتُ لها: عانقيني يا أمّاه عناقاً طويلاً. كم شعرتُ بالاطمئنان وأنا مرتمٍ بين أحضانها. وبعد أن غمرتني بحنانها العميق، كرَّرْتُ عليها سؤالي: ( لماذا جئتُ إلى العالم يا أمّاه؟ ).
حدّقَتْ بي بإمعان ثمَّ أجابَتْ:
انّنا لم نأتِ إلى العالم باختيارنا الحرّ يا بنيّ، وكلّ البشر لم يأتوا إلى العالم باختيارهم، و ..
( قاطعتها ) .. عفواً يا أمِّي .. أعلم أنّنا لم نأتِ إلى العالم باختيارنا الحرّ، أعلم هذا جيّداً .. لكنّي أقصدُ شيئاً آخر، فأنا وأنتِ وآخرين ممَّن تشبه أحوالهم أحوالنا، نحن الّذين ارتشفنا المرارات الملوّنة منذ زمنٍ بعيد، ما هو هدفنا في الحياة؟ .. ولماذا جئنا أصلاً للحياة؟ .. هل جئنا من أجل مراراتها فقط؟ .. آهٍ .. لو تعلمي كم مرّة أشعر يوميّاً وكأنّ قلبي يتوقّف عن الخفقان! .. انّني أرى هذا العالم الكبير صغيراً للغاية، انّه يحاصرني ويخنقني دونما رحمة .. انّني أشعر وكأنّني غارقٌ في سراديب معتمة لا تنتهي.
لماذا لا نخرجُ يا أمّاه إلى النور؟ .. لماذا نغرقُ هكذا في الظلام الدامس ويحاول ( بعضهم ) أن نبقى دائماً في الظلمة الداكنة، بعيداً عن توهُّجات الشمس الدافئة؟
أيّ ظلامٍ تتحدَّثُ عنه يا بنيّ؟ ..
أنّه ظلام القرن العشرين يا أمّاه! .. هذا الظلام الذّي تفاقمَ نتيجة ( جهل ) الإنسان وغوصه في فنون الدمار، مستغلاً النور الباهر، لتعمية أخيه الإنسان .. تاركاً خلف ظهره أخلاقيات قرون من الزمان تحترقُ في رابعةِ النهار!
.. لا أحبُّ نوراً يبهر عيوننا. انظري يا أمّي .. ها أنذا أرى تجاعيد وجهك بوضوح. انظري إلى ذلكِ القنديل .. انّه يصدر نوراً خافتاً مع ذلكَ نرى بعضنا بوضوح. يا له من نورٍ مريح! .. إنّنا لو عشنا على القناديل بأمان، أفضل من أن نعيش على النور الباهر .. هذا ( النور ) الّذي منه تنبثق شرارات تعمي العيون تارةً وتحرقُ اخضرار الزيتون تارةً أخرى.
لماذا لا ينشد الإنسان أُنشودة المطر؟ .. كم أنا بشوق يا أمَّاه إلى خبزِ التنّور!.. آهٍ .. لو كان بيدي سيف حادّ! .. ناطوري أكلَ عنبي وخبزي، انّي أريدُ أن أقتلَ الناطور. أوَّل البارحة رأيتُ ناطورنا يذبحُ عصافير الخميلة ثمَّ رماها في ساقية ضحلة. وعندما وجدني مغتاظاً، هدَّدني قائلاً:
لو تفوَّهْت بكلمة واحدة سيكون مصيركَ كمصيرِ العصافير!
هل تسمعيني يا أمَّاه؟
هزَّت الأمّ رأسها وقالت: أيوه يا بني انّي أسمعكَ جيّداً.
آهٍ .. لو تعلمي كم من الهموم تجمَّعَت في رأسي، إنَّ هموماً لا تحصى تعشعشُ في رأسي الصغير، ولكي أقضي على هموم العالم، لا بدَّ أن أفصلَ رأسي عن جسدي! .. ( جحظَتْ عينا الأمّ منذهلةً ) .. ثمَّ قالت:
أيُّ ناطور تتحدَّثُ عنه؟ .. ومن أينَ لكَ كلّ هذه الهموم وأنت ما تزالُ في باكورة العمر؟
أيُّ عمر تتحدَّثينَ عنه يا أمّي؟ ؟.. وهل تسمّين الحياة التي عشتها عمراً؟ .. الأحد الماضي رأيتُ حمامة بيضاء، كانت تحلِّقُ فوق أرضنا الفسيحة، حاملة غصن الزيتون. وفجأةً شاهدتُ ناطورنا من بعيد يتَّجهُ نحوها ومعهُ مجموعة ( هائلة ) من كلاب الصيد .. ( قلبي يتمزَّقُ يا أمّي! ) .. طوَّقَ الناطور بمساعدة ( الكلاب ) الحمامة ثمَّ أمسكها ورمى غصن الزيتون بعيداً، ثمَّ اقتادها بعنف، وزجَّها في السجن، متذرِّعاً بأنَّها كانت تثير الفتن والمشاكل، وكانت عائقاً في طريق النور الّذي كان ينشده الناطور.
هل وجدْتِ يا أمّي في تاريخكِ حمامة تثير الفتن والمشاكل؟ .. لماذا عيناكِ جاحظتان تحدِّقان في تلك اللوحة المرسومة على الجدار؟!
كانت أمِّي ذاهلة، تصغي إليّ بامعان، فتابعْتُ أروي لها ما رأته عيناي:
الربيع الماضي رأيتُ الأقاحي تبكي بكاءً مرّاً .. ( آهٍ .. رأسي يدور! ) .. لماذا أقاحي الآخرين لا تبكي وأقاحينا يلفَّها البكاء والأنين؟ .. هل تعلمينَ يا أمّي، انّي شاهدتُ ناطورنا حاملاً عصاه الغليظة مخاطباً الأقاحي الباكية، محاولاً تهدئتها قائلاً لها:
لا تبكي أيّتها الأقاحي الجميلة، أعرف أنَّكم حزانى على مصير الحمام .. ولكن (أنتم) ، لا تقلقوا على مصيركم ومستقبلكم .. سأحقّقُ لكم ما تريدون، انّي أخطِّطُ لمستقبلكم (الزاهر) .. غداً أو بعد غد سأعطي توجيهاتي للمعنيين بالأمر، كي نبني لكم بيوتاً من الثلج! .. نعم بيوتاً من الثلج، ولو شعرتم بالبرد لا تخافوا، اتّصلوا معي مباشرةً ..كلمح البصر سأكون عندكم، وسأفضي لكم سرّاً من أسرار الطبيعة. سأعلّكم كيف تتأقلمون مع برودة الثلج، والبرد (يا أعزّائي) له نكهة خاصّة، وحالما تتعوَّدون عليه ستشعرون بهذه النكهة. وسأجلب لكم ماءاً مقطَّراً ، لو وجدتموه أحمر اللون، لا تخافوا .. اشربوه. انّه معقَّم! ولو وجدتموه مرّاً فلا تخشوا الخطر .. (سوف تتعوَّدون عليه مع مرور الأيام)..ستشعرون بعد فترة انّه لذيذ رغم مرارته!.. ولا تندهشوا ممّا أقول، لأنّ كل شيء جائز هذه الأيام .. وكلّ هذه (المرارات اللذيذة) لها علاقة بالتأقلم .. فكلّما أصغيتم إليّ ونفذّتم كلّ ما أقوله لكم ، ستشعرونَ بلذة الحياة (رغم مراراتها) .. وأريد أن أصارحكم وأقول لكم: أنّ سبب دخول الحمامة إلى السجن هو: أنّها لم تحاول أن تتأقلمَ مع برودة الثلج، ولم تعوِّد نفسها على شرب الماء (المقطَّر!) .. وكانت دائماً تقول: (إنَّ هذا الماء الّذي نشربه له مذاق غريب ومراراته غير قابلة للاحتمال) .. وكانت تستنكر برودة الثلج، مع العلم انني مراراً وتكراراً نصحتها وقلتُ لها: سوف تتعوَّدينَ على هذه البرودة مع مرور الزمن، إلا أنّها ما كانت تصغي إلى (توجيهاتي) .. وقد ضبطتها في إحدى المرّات، وهي توشوشُ في أذن أحد العصافير قائلة له:
"لا تشربْ من هذا الماء الملوَّث، انّكَ لو شربتَ منه ستحمرُّ عيونكَ، وسوف لن ترى لمسافات طويلة .. ويقال أنّ هذا الماء الملوَّث يؤثر على الأجنحة وفروة الرأس".
عندما سمعتُ ما قالته الحمامة للعصفور، خرجتُ عن طوعي واضطررت أن أوقفها عند حدَّها .. ووجدتُ من الأفضل أن أسجنها، لئلا تثير المزيد من القلاقل والفتن فيما بينكم .. وأنا أريد أن أحافظَ على مصلحتكم يا أيّتها الأقاحي (الكرام) .. وأحيطكم علماً بأنَّ لديّ مخطَّطاً هامّاً ومفيداً لكم .. ولا أخفي عليكم أنني بعد فترة سألتقي مع أحدِ النواطير ، صحيح أنَّ هذا الناطور ليس من بني جلدتنا، ولكن أوعدكم بأنَّ مخطَّطاتي معه ستسفر عن فوائد كثيرة، أهمّها: الحصول على حمامة (غريبة وعجيبة) .. سأجلب لكم حمامة سوداء مثل الفحم! .. ومن الآن أقول لكم:
لا تخافوا من سوادها الفاحم! .. سوف تتعوَّدون عليه، وأريد أن أبلِّغكم ـ من الآن ـ أن سوادها يجلب الحظّ .. أيوه يجلب الحظّ .. وأنّها لا تهدل مثل الحمام، وإنّما تنعق نعيقاً خارجاً عن المألوف .. وبصراحة نحنُ بحاجة ماسّة في الوقت الراهن، إلى هكذا نوع من أنواع النعيق .. لأنّنا مللنا من هديل الحمام الناعم، ولا أخفي عليكم أن هديل الحمام المتعارف عليه، أصبح [الآن] شيئاً عتيقاً، ولا بدَّ أن نستبدل كل ما هو عتيق لمواكبة مسيرة (النعيق والاسوداد!).
أستودعكم على خير .. وسوف لن أتأخّرَ عليكم .. سأعود إليكم قريباً .. وسأجلبُ لكم الحظّ الّذي وعدتكم به، (حمامة) سوداء تنعق نعيقاً متواصلاً أثناء الليل.
.. كانت الأمُّ تصغي بانذهال إلى ما يقوله ابنها على لسان الناطور. وبعد أيامٍ قليلة لم تستطِعْ الأمّ أن تجدَ سبيلاً للنوم، لأنّها كانت تسمعُ نعيقاً مخيفاً يملأ سكونَ الليل!!
المالـكيّـة: نيسان 1984 (مسودة عمل)
سـتوكهولم: نيسان 1994 (صياغة نهائيّة)
سـتوكهولم: نيسان 1994 (صياغة نهائيّة)
صبري يوسف- كاتب-شاعر-فنان
-
عدد الرسائل : 107
البلد الأم/الإقامة الحالية : السويد
الهوايات : الكتابة والفن
تاريخ التسجيل : 07/10/2008
๑۩۩๑ المملكـــــــــــة الأدبيــــــــــــة ๑۩۩๑ :: أقـــــلام نـشـــطــة :: عندما تغفو الشموس قليلا / لنا عودة :: الأديب والشاعر والفنان السوري صبري يوسف
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى