حوار مع الشاعرة اللبنانية جمانة حداد
صفحة 1 من اصل 1
حوار مع الشاعرة اللبنانية جمانة حداد
حوار مع الشاعرة اللبنانية جمانة حداد
حاورها من أور / نعيم عبد مهلهل
يلقي الشعر الأنثوي بظلاله الخضر على مساحة المودة التي تسكن الذاكرة فيصير قاموساً نستذكر به متع حياتنا، أيام تكون الأنثى خط شروع لكل رغبة تعترينا لاكتشاف هاجس ما، حتى لو كان طلسماً سليمانياً.
والشعر ذاكرة العبادة، وتمتهنه النساء لرغبتهنّ في أن يثبتن أن قلقهن مصنوع من ماس فيما قلوب كل الرجال مصنوعة من فضة. وهن رائيات بفطرة المهد فيما رائية الرجل تنبع من مشقة الحياة. الشعر هو اغتراب يسعى للوصول الى مثاليته، تلك المثالية التي نشعر بتيهها متى أحسسنا بقرب دنو أجل الواقع، لتأتي الفنتازيا وتقيم في الرأس مأتمها، وهو ما يطلق عليه أرسطو تسمية الخلق الشعري .
والشعر خلق ميتافيزيقي. ينوء بقدر أرجواني يتعدد مع افتراضات الكشف عن مكامن الحس، الذي عندما تمسكه أصابعنا تقودنا القناعة بأننا أمسكنا حجارة حيان: تلك التي كان جابر يفكر بصناعتها من خلال خلط العناصر وتذويب الشاردة بالواردة. وحين لم يستطع ذهب الى مخيلة التصور في هاجس اليونانية الصافية، وقال : ما يغيثني في بحثي سوى شجني. وهو ربما كان يقصد الشعر.
الشاعرة اللبنانية جمانة حداد واحدة من باحثات هذا الشجن. وهي تملك من شغف التحدث بمشفرات الشعر واللعب على موسيقى الضد وعكسه الشيء الكثير. وهي أيضاً من اللواتي يستطعن إيجاد ضرورة في جعل الشعر رسالة نوصل بها صوتنا وطموحنا وموهبتنا. ومنذ ديوانها الأول وحتى ديوانها الأخير كشفت هذه اللبنانية الحالمة بمتوسطية تذهب بالزرقة الى أي مكان في العالم، كشفت نبوغ أن تكون القصيدة عالماً لكشف توهّج الألوان وقيمتها الكونية.
الذي يقرأ جمانة حداد، سيكتشف معايير حضارية لا تقف عند فاصلة الرهبة الإجتماعية. وقد مكنتها ثقافتها الألسنية من تجاوز حدود الإهتمام بالمحيط وشرقيته. فكانت ترجماتها تعبر عن ثقافة شاسعة مع الآخر الذي يمثل طرفاً في عولمة الكون. ولأنها مولعة بالإلتقاء بالآخرين الذي يصنعون جسد الحلم في العالم الجديد، كما مع كويلو وايكو وساراماغو وهاندكه وسواهم، ها هي تقع اليوم في حبال الالتقاء مع آخر جاءها من أور السومرية، على خلفية موضوع كتابها الشعري الأخير "عودة ليليت".
الحوار مع جمانة حداد يندرج في فاصلة الإنتباه الى ما أقوله وتقوله ضمن مدارات الوعي الشعري في ذاكرتها، وهي في أكثر تناولاتها تتحدث عن الآخر وتأثيراته على أنثى ترغب من خلاله بأكتشاف ديمومة حب أو موت جميل. كان اللقاء مخططاً له منذ عام تقريباً لكن الحياة ومشاغلها لا ترحم حتى مواعيد الثقافة. غير أن ذاكرتي عادت لتلغي أسئلة الأمس ولتبدا بأسئلة اليوم:
جمانة حداد أسمع في ديوانك الجديد صرخة انتصار على الرجل. لماذا تشحنك الرومانسية الى تحدي سلطة الذكر؟ هل الشعر عندك خنجر تدافعين به عن نفسك تجاه سلطة روحية أو طبيعية مضادة؟
أنا أتحدى كل سلطة وليس سلطة الرجل فحسب. أنا سيدة نفسي ومديرتي ورئيسة جمهوريتي وملكتي. أقول "نعم" عندما تكون الـ"نعم" خياري" وأقول "لا" عندما أكون مقتنعة بضرورتها. لكنّ الرجل ليس عدوي، ولا أعتبر علاقتي به حربا، بل أراه ندّي وشريكي. لا هو يريد إخضاعي، ولا أنا أرغب في السيطرة عليه. ثم ليست الرومانسية ما يشحنني فأنا لست امرأة رومانسية بل شرسة عموما، التهم الحياة التهاما وأعيشها واكتبها بأظافري. والخنجر الذي تذكره لا ادافع به عن نفسي بقدر ما أغرزه في جسمي وروحي الخاصين. لست ضد الرجل أبدا، لا بل أنا مع الأنوثة ضد النسوية التافهة التي حوّلت عموما المرأة ضحية والرجل جلادا، وهذا ايضا ما حاولتُ قوله من خلال ليليت. فعدوّة ليليت الحقيقية هي غالبا المرأة الحوائية، أي أنثى الواقع المرّة الناقصة المسطّحة. لقد اكتشفت في حياتي أن كارهة المرأة الأقسى والأعنف والأشد دناءة هي المرأة نفسها، أي تلك التي تغار وتحسد لأنها يابسة وعاجزة عن العطاء. وأنا أشفق على أولئك العقيمات اللواتي تدفع بهنّ غيرتهن الى الجنون. أما ليليت، أكانت زوجة أو عشيقة أو ربّة منزل أو صاحبة مهنة أو أمّاً أو كل ذلك معا وغيره، فهي المرأة الواثقة القوية بأنوثتها، الذكية في جبروتها واستقلاليتها وطموحها كما في خوفها، وغير المستضعفة في ضعفها. هي، كما اقول في احد المقاطع، "ما ينقص الرجل كي لا يندم وما ينقص المرأة كي تكون".
ذهبتِ في "عودة ليليت" الى الميثولوجيا: ما سرّ ذلك؟
ليليت بالنسبة لي لا تنتمي الى الميثولوجيا بالمعنى المتعارف عليه للكلمة. هي حقيقية حدّ أنني أستطيع الكلام معها ومعانقتها وتأنيبها وقرص خدّيها وتمشيط شعرها الطويل. هي حقيقية لأنها أنا، ولأنها كل امرأة تفكّر وتعيش حياتها مثلي، متلذذة بالتهام أيامها ولياليها كما تلتهم النيران وليمة الغابة. هي المرأة الحرّة، المستقلة، الصريحة، النهمة، المتمردة على الطاعة العمياء وعلى حلم الكمال المضجر. هي تلك التي تمدّ يدها وتأخذ، بدل أن تنتظر أن تُعطى. إنها في آن واحد التفاحة والمحرّضة على أكل التفاحة. وهي بالتأكيد ليست قناعا لي، فأنا اظهرتُ مرارا، على مرّ كتاباتي، جرأتي لا بل فجاجتي في قول ما أريد قوله وفي إضاءة صوري وبروقي الداخلية، وليس عندي أي مشكلة في التعبير عن أفكاري واقتناعاتي بصدق: كيف تكون ليليت قناعا لي وأنا أسكنها وأحمل صوتها وأتبنّاها تبنّيا مطلقا؟ جلّ ما في الأمر هو أني أردتُ من خلال استخدام اسمها أن أجمع تحت جنحها كل النساء اللواتي ينتمين الى جوهرها، كي لا تقتصر عليّ وحدي. ولمن يتوهّم أنها ستارة أختبىء وراءها، ها أنني أعلن بصوت عال وقوي: ليليت هي أنا، أفكارها أفكاري، خطابها خطابي، قصّتها قصّتي، وجسدها جسدي. ليمّح كل التباس حول هذه المسألة على الفور، وليتحرّر المتحفّظون من خوفهم، الساذج والموروث ببغائيا، من "وصمة" الأسطورة بصفتها ابتعادا عن اليومي والحقيقي.
ليليت هي التأريخ بأنوثته الحضارية. هل قرأت جيداً تلك الرؤى القديمة وكتبت هذا الديوان؟
عندما قرأتُ قصّة ليليت للمرة الأولى منذ نحو اربعة أعوام، وقعتُ في غرامها ووجدتُ فيها جوابا عن أسئلة كثيرة كانت تراودني، وأحببت ان أروي تلك المرأة الأولى على طريقتي، فرحت ألاحق أخبارها وظلالها من مرجع الى آخر. انطلقتُ من قصّتها لكني تجاوزتها وأعدتُ اختراعها على هواي شعريا. أكثر ما احببت فيها هو أنها المرأة الأصلية، التي خلقها الله من التراب على غرار آدم، المرأة المكتمل قمرها الأسود بقمرها الأبيض، والتي ترمز الى الوجه الحرّ والأبيّ والشهواني من النفس الأنثوية.
كتبتِ "عودة ليليت" في شكل قصيدة ومشهد درامي ونص نثري مفتوح. لماذا هذه الأشكال الثلاثة؟
لقد اردتُ بهذه الأشكال الثلاثة، التي كان يمكن أن تكون اربعة أو حتى عشرة، أن أعبّر عن حرية الجسد الشعري وتعددية احتمالاته. أنا أحب الانحناء على عجينة قصيدتي، شرط ألا تأتي نتيجة هذا الانحناء افتعالا شكلانيا مجانيا لا يؤدي الى اي تجديد شعري، بل الى دوران في حلقة مفرغة، حلقة البحث عن الشكل المختلف الصادم على حساب مستوى النص الشعري. فالتجديد الثوري لا يكمن بالضرورة في القطيعة مع ما سبق، وثمة دائما خيط يربط ما كان بما سيكون، مهما كان مختلفا عنه ومتعارضا معه. قصيدة النثر نفسها لم تولد من اللامكان، أو من القطيعة في معناها الحاسم، بل هي نتيجة تراكمات كثيرة. الدرجة "صفر" غير موجودة في الكتابة، بل هناك الإضافة التي قد تصنع فجأة كل الفرق، حتى ولو كانت ضئيلة. قصيدتي تمشي في طريقها وتتغيّر وتتطوّر شكلا ومضمونا بحسب إيقاعها الخاص. وأنا إذ كتبتها اليوم بثلاثة سبل، لم انقّب عمدا عمّا يمكن ان يجعل بنيتها مختلفة، لأن اسباب اختلافها يجب أن تكون موجودة في داخلها أو لن تكون ابدا، إن على صعيد المضمون أو الرؤيا أو طريقة "طحن" اللغة. لقد كتبتُ بكل بساطة القصيدة التي نادتني، بالأجساد الثلاثة الذي شعرتُ أنها هي اجسادها وأنها تطالب بها، ولم أكن أبحث عن استفزازات شكلانية "بالقوّة" من خلال طرائق مشيي نحو القصيدة، لأن استفزازي هو قصيدتي في ذاتها، لا في قطيعتها أو عدم قطيعتها مع الأشكال التي سبقتها او سوف تليها.
أنت تتثقفين بألسنية جديدة هي نتاج وعي قراءات متحضرة وتأثير للترجمات واللغات الأخرى. هل أثر هذا في موهبة الشعر لديك. وأين؟
علاقتي باللغات تشبه اكثر ما تشبه الهوس. مذ كنتُ صغيرة سكنتني حمّى اللغات، الناجمة جزئياً عن شغفي بالمطالعة. الفرنسية والانكليزية تعلّمتهما في المدرسة، أما الأرمنية فمن جدّتي لوالدتي. ثم عندما بدأت دراستي الجامعية أرفقتها باللغات. كان حلمي أن اقرأ اونغاريتي بالايطالية فبدأتُ بها، وعلّمتها بدوري بعد ذلك طوال سنتين. ثم كرّت السبحة: ألمانية ريلكه، فإسبانية لوركا، التي انتقلت منها الى البرتغالية. هو نهم يغنيني كثيرا من دون شك، غالبا من حيث لا ادري، اذ يتغلغل من لاوعيي الى وجداني الشعري ويتكثف فيه كالغيم قبل المطر. اهمية متقن اللغات تكمن في أن يتمكّن في الدرجة الأولى من "هضم" الهبات الموضوعة بين يديه، اي أن يتمكّن من جعل الدماء الجديدة التي يُـحقن بها تـنسرب في شرايينه و"تتلوّث" بدمائه لتصير جزءا شرعيا من لاوعيه اللغوي، من دون أن تمحو خصوصيته، أي ان ينجح في قتل "الآباء" المؤلفين في داخله فيحيوا به بدل أن يحيا هو بهم.
وهل من الضرورة أن يحتاج كل شاعر الى لغة اخرى؟
لا، ليس ذلك ضروريا، وأنا لا أهوى التهام لغات جديدة لأن الأمر "ضروري". أفعل ذلك، مثلما ذكرت، لأنه شغفي. وشغفي يستفزني ويزيدني عطشا كلما شربت. كل لغة تحمل لي معها حقيقتها وآلياتها وطرائـقها. على الشاعر أن يعيش اللغة التي يكتبها. أن يكونها خصوصاً. وإلا صارت الكتابة لغة خالية من الحياة أو شيئاً عادياً جداً. على الشعر أن يخترق الحجب والسطوح ليصل الى الأعماق، الى المناطق المظلمة من اللغة ، حيث لا يصل سوى الذين يملكون القدرة بالكلمات على الوصول الى هناك. ولأجل ذلك على الشاعر الذي يقرأ ويكتب شعراً بلغات متعددة أن يكون هذه اللغات، وإلاّ ذهب ما يكتبه هباء، كغيمة صيف عابرة. أنا أحب استكشاف نفسي باللغات الأخرى. أغدو مختلفة مع كل لغة، وأريد أن أحاول نقل أصوات "الجمانات" اللواتي فيّ.
# لقد حققت لقاءات كثيرة مع أدباء عالميين. هل تحقيق هذه اللقاءات هو بالنسبة اليك بمستوى الحصول على مادة كتابة القصيدة؟
لا شيء يعادل نشوة ولادة فكرة قصيدة في روحي. إنها لحظة جماع مقدّسة بين مخيلتي والعالم.
# واولئك الذين تلتقين معهم، هل يمنحونك حافزاً ما لصناعة نص جديد؟
كل لقاء مع الآخر هو عملية إغناء، أكان يتم وجها لوجه ام بواسطة الكتاب. لكن محفزّي الحقيقي على التجدد هو طبيعة هويتي المفتوحة على احتمالات كثيرة، والدائمة التموّج والتحوّل، ليس لأنها تؤمن أنّ التغيّر حقّها فحسب، بل لأنها تدرك انه شغفها أيضا: فأنا لا اريد ان أنحصر بشكل وأتحدد بلغة أو بجسد او بإسم أو بصفة، وأتوق دائما الى التفلّت من التعريفات التقليدية المقررة سلفا، والى اختراع نفسي باستمرار بأقصى درجة ممكنة من الحرية، من دون ان أجرجر ورائي ما كنته وما آمنت به وما أحببته في الماضي، وكأنها سجون تطاردني الى المستقبل. أحبّ أن ابدأ من جديد كل لحظة، حتى عندما اكرر نفسي. لذلك فإنّ نهاراتي سلسلة من عمليات البناء والتدمير ومعاودة البناء الى ما نهاية، وينطبق ذلك على الشعر واللغة مثلما ينطبق على علاقاتي الانسانية وحياتي عموما.
# المرأة اللبنانية اليوم، هل هي مثقفة فضائيات أم مثقفة كتب؟
لا احبذ التعميمات، ولا أحب أن أكون ناطقة بإسم المرأة اللبنانية، ولا بإسم المرأة عموما. جلّ ما استطيع فعله هو الحديث بإسمي. في رأيي ليس هناك شيء اسمه ثقافة فضائيات. الثقافة ننهلها من الكتب، لا من التلفزيون. التلفزيون ضروري طبعا، فهو فسحة تسلية وترويح ممتع عن النفس، لكنه لا هو ولا غيره يستطيع ان ينوب عن الكتاب وأن يؤدي دور الكلمة الجوهري في التثقيف وتغذية الفكر والروح والخيال. ولست طوباوية في كلامي بل أتحدث عن خبرة. الكتاب أفضل عشيق.
أنت صحافية وشاعرة وربة بيت ورحالة أيضاً. الجمع، يقول الجاحظ، يقود الى القمع. هل تشعرين بتأثيرات مثل هذه؟
لا قمع يصيبني على الإطلاق جراء جمعي بين هذه المشاغل المختلفة، فأنا كثيرة ومتعددة، ولا يتعبني الحشد الذي يقيم فيّ بل يغنيني باستمرار، لأنه يتيح لي أن أسافر بيني وبيني كل يوم وكل لحظة احياناً، وأن أكون هنا وفي مكان آخر. وهذا السفر هو نوع من الخروج على الهيمنة التي تصنعها الحياة اليومية وتفاصيلها. واذ أسافر، أنقل ما اراه من الحياة الى القصيدة. إن تعدديتي وتنوّع مشاغلي واهتماماتي يجعلانني أكتشف فيّ مناطق داخلية قوية وعميقة ومتجذرة في روحي وجسدي، وربما لا استطيع ان اواصل حياتي اذا تخليتُ عن تلك الأمكنة التي يحفل بها داخلي. ويمكنني ان اعترف لك بأن الشعر لديّ ليس سوى هذه الأسفار المتعددة بين أجسادي وروحي، بين نسائي السبعة والعالم.
جمانة حداد
العبيدي جو- المديـر العــام
-
عدد الرسائل : 4084
تاريخ التسجيل : 28/08/2008
مواضيع مماثلة
» لقاء صوتي مع الشاعرة جوليات انطونيوس على قناة MTV اللبنانية
» الشاعرة المغربية إكرام عبدي تصدر"مقالات في حالة حداد"
» حوار مع الشاعرة والاعلامية الفنانة المصرية انتصار صبري / لمياء البجاوي
» تعقيب على نصّ -عشيقي- للشاعرة اللبنانيّة جمانة حدّاد
» لمن هذا الرجل..؟
» الشاعرة المغربية إكرام عبدي تصدر"مقالات في حالة حداد"
» حوار مع الشاعرة والاعلامية الفنانة المصرية انتصار صبري / لمياء البجاوي
» تعقيب على نصّ -عشيقي- للشاعرة اللبنانيّة جمانة حدّاد
» لمن هذا الرجل..؟
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى