زمنٌ راسخ في ذاكرة شعب
๑۩۩๑ المملكـــــــــــة الأدبيــــــــــــة ๑۩۩๑ :: أقـــــلام نـشـــطــة :: عندما تغفو الشموس قليلا / لنا عودة :: عبَرَ مِن هُنا / دانية بقسماطي
صفحة 1 من اصل 1
15022010
زمنٌ راسخ في ذاكرة شعب
ليس اكتشافاً ولا بِدْعاً الزّعمُ بأنّ الدّاخل إلى أيّة عاصمة عربيّة سيرى أنّ فيها، على حدّ سواء، طوابع مشتركة في الشوارع الكبرى والأزقّة المختبئة وراء الحارات الشّعبيّة، وفي حركة السّيارات إبّان تنقّلها وسط الزّحام تبعث على الإنزعاج والنّفرة من أصوات محركّاتها وزمير أبواقها، وفي هندسة أبنيتها القديمة التي اقتضت تشييدها على النّحو الذي هي عليه ظروفٌ مناخيّة ودواعٍ إجتماعيّة... على حين ارتفعت في أحيائها الجديدة أبنيةٌ جاوزت الطّبقات العشر، استغلالاًً لفضاء يتشامخ في علوّ لا نهاية له، بإزاء أفقيّة حدّت من امتدادها موانع نهرٍ عريض، أو جبل عالٍ، أو شاطىء هو فندق السّفن الذّاهبة والآيبة على سواعد الماء.
وممّا هو مشترك بين هذه العواصم –ومنها عمّان بالطّبع- ازدحام أسواقها بالنّاس، من سكّان العاصمة ومَن وفَدَ إليها من البلدات المجاورة أو السّيّاح، فإنّهم جميعاً، باستثناء الأجانب، يتخاطبون أو يساومون الباعة في الطّرق، بفصحى مُمصّرة من القاهرة، أو مُسوّرة من الشّام، أو مُلبْننة من بيروت، أو مُسودنة من الخرطوم، أو مُؤرْدنَة ومُفلسْطَنَة من عمّان وبيت المقدس... ومع ذلك، فالمصريّ والشّاميّ واللبنانيّ والسودانيّ قادرون على التّحادث مع إبن عمّان الأردنيّ والفلسطينيّ بيُسْرٍ والتّفاهم معه. ولا شكّ أنّ وسائل الإعلام في كلّ عاصمة عربيّة جادّة بفصحاها على إزالة هذه الفوارق ولكنّها عاجزة عن تجاوز الخصوصيّة المحليّة لكلّ لهجة عجْزَ إلغاء التّفاح ونكهة البرتقال وتذويبهما في نكهة واحدة مثلى. إنّ هذه الظّاهرة شبه الثّابتة في الّلهجات قديمة لم تقدر وحدة الحكم في الإسلام سابقاً على محوها والخلاص منها... ولكنّ الّلافت في هذا المجتمع العمّانيّ، خلال تجوالك في السّوق، الحجاب الذي كان يغطّي رؤوس تسعين بالمئة من النّساء، وقد ذكّرني هذا المشهد بالرّاهبات اللواتي يخفين شعورهنّ وخدودهنّ بغطاء مشدود الأطراف، ويتلحّفنَ بثوب فضفاض طويل أسود اللون يخفي معالم الجسد الأنثويّ من تفاصيله كافّة. على أنّ ما رأيته في السّوق لم يكن حجاباً موحّداً: فمن النّساء من أخفين الرّأس بتمامه، ينظرن إلى الطّريق والنّاس والأشياء من خلال نسيجٍ متعدّد الطّبقات، متهدّل فوق الوجه، أو من خلال فراغ أفقي ضيق يتيح للعينين الإبصار على حساب محو معالم الوجه الأخرى... وهناك الحجاب المتعدّد الألوان الذي يغطّي الشّعر والأذنين وصفحة الخدّين ويترك للمرأة ظاهر الوجه طليقاً باعتبار أن العينين والأنف والفم ليست عورة. وثمّة اللّباس النسويّ الفلسطينيّ الذي يكون الحجاب جزءاً منه. ففي الرّيف الفلسطينيّ، لا سيّما ريف الضفّة والجليل، بما يتخلّلهما من مدن، ترتدي المرأة فيه ثوبأً ذا لون واحد غالباً: أسود، أخضر، أحمر، أصفر... مخيّطاً على قدّ جسمها، طويلاً حتّى الكاحلين، وهو مطرّز الصّدر والكمّين بخيوط ذهبيّة، أو بخيطان متعدّدة الألوان متّسقة في حوكها وشكلها البديع وزركشتها الأنيقة. والطّريف في هذا الضّرب من الثّياب، أنّ لكلّ قرية من هذا الرّيف أزياء خاصّة بالمرأة تميّزها عن المرأة الأخرى في القرى المجاورة أو البعيدة. وبالتّالي فإنّه يلي الثّوب المميّز هذا، منديل يغطّي الرّأس، ما عدا الوجه، معقود في مستوى العنق أو أعلى قليلاً، فوقه "طرحة" حريريّة أو من الموسلين تتهدّل بمستوى قمّة الرّأس على الكتفين واليدين حتى أسفل الوركين، وقد انفتح ظرفاها الأماميان على واجهة الصّدر المطرّز. واللاّفت أنّ لبس الحجاب عند المرأة الفلسطينيّة تحديداً، والأردنيّة على العموم، ليس وقفاً على طبقة واحدة, فقد تجد أنّ شيوع ارتدائه بين نساء الطّبقة الميسورة لا يقلّ عن شيوع ارتدائه عند الطّبقة المتوسّطة أو الفقيرة بدافع من التمسّك بأهداب الفضيلة والحشمة اللتين يدعو إليهما الإسلام. والحقّ أنّه ليس من شأن هذا الإستطلاع الوجيز أن يبحث في إيمان النّاس وخياراتهم في ظلّ ظروف غيّرت في مواقع الجماهير الإجتماعيّة؛ فلعلم الإجتماع رأي يختلف في تفسير وتحليل هذه الظاهرة التي كان لها حضور في المجتمعات العربيّة، مرهونٌ اتّساعه أو ضيقه بظروف الرّخاء الدّيموقراطيّ أو العُسر القمعيّ، وبمدى الإنفتاح أو التقّوقع، وبمستوى الوعي وتفسير الإجتماع وغيره بالعلم، أو بالركون إلى الجهل والتواكل والإرتماء في أحضان التّقليد والخرافة والغيب... ولكن، على الرّغم ممّا لهذه الظّاهرة الكاسحة من حضور طاغٍ، يبقى في كلّ مجتمع مساحات مضيئة، ورئات سليمة يتنفّس من خلالها الطُلقاء من أسر التقليد والفنّانون والمفكّرون والشّعراء والتّشكيليون، وهي ليست قليلة، منها مقهى جفرا.
مقهى جفرا في عمَّان ، تدخلُ إليه عابراً سوقاً قديمةً تُخاصركَ على جانبيها أعمدةٌ تُطلُّ من خلفها نوافذ بيوت عتيقة يُغطيها زجاج تفوح من أشكاله الهندسيّة ألوانٌ شتّى ، فيما تتدلّى من سقوف الزّقاق قناديل توزّع الضوء على أرجائه .
تصعدُ على أكتاف درجٍ حجريٍّ يَحملك إلى باب المقهى .
ترى إلى يمينك لوحة خَزفيّة تتعانق فيها الحروف ، حروفٌ كوفيّة مورقة ، قالت :
" من لم يعرف جفرا ، فلِيدفن رأسه "
غضبتُ من قدميَّ لأنهما لم تقوداني إلى معرفة جفرا من قبل , و لكنّي حييتُ الطّريق التي قادتني إليه و تركتُ العتبة أن تُعطيني يديها .
تدخلُ بهواً واسعاً يتناسلُ شعراً ، فناً ، دفئاً و بهاءً .
تُقابلك وجوهٌ هادئةٌ مفعمةٌ بالصّمت و التّأمل و السّكينة , وجوه تقرأ ، تشرد ، تتنهّد ، تتأوّه ، تحلّم , تحبّ , تتمرّد و أخيراً تضحكْ . فيما لوحة الشاعر العملاق محمود درويش ، شاعر القلق تتربّع على عرش المكان .
المكانُ , كتابٌ يخطُّ تاريخ ميراثنا , ماضينا و أشيائنا الحاضرة
الضوء يقرأ ، و نحنُ أجنحةٌ تُصغي :
أسند رأسك أيّها الزائر و أصغِ إلى الغيوم السابحة في الفضاء و على وجه الأشياء تُقطِّّر عليكَ أناشيد مواسم تتذوّق فيها رائحة التّراب و زغردة الأرض و إياب المسافر الحاضر الغائب .
دخلتُ محمولةً على أجنحةِ الدهشة و الانبهار و سمحتُ لنفسي أن أطلب من الأستاذ " سامي شفيق " بصفته أميناً للمكتبة أن يحدّثني عن هذا المكان الذي هو أشبه شيىء ببيت , قال :
فكرة إنشاء المكتبة أو مقهى " كوفيه شوب " على نحوٍ مُتميّز عن باقي المقاهي ، فكرةٌ تقوم على المباينة و الفرادة في خلق مناخ يُمكن للزّائر فيه أن يتصفّح ما يستسيغ من الكتب أو الصحف في أثناء احتسائه القهوة أو تناوله الفطور , و لا سيما الجريدة اليومية التي تُوفّر للزائر فكرة الإستمرار في متابعة الحياة اليوميّة .
يحفلُ المقهى فضلاً عن المكتبة بألوانٍ من المقتنيات التّراثيّة التي تبرَّع بها نفرٌ من المثقفين الفلسطنييّن و الأردنّييّن في عمَّان , و هي غير مُعدَّة للبيع أو للإعارة .
جديرٌ بالذكر أنَّ هذه المكتبة تضمُّ في رفوفها دواوين شعريّة و كتباً أدبيّة و أسفاراً فنيّة و مباحث سياسيّة ذات حضور واضح في حياة روّاد المقهى , كما أنَّ ثمّة كتباً تنتمي إلى لغات أجنبيّة مختلفة لتأمين الحضور الفكريّ و النفسيّ لِمن يرتاده من الأجانب .
و اللافت أن الذين صمّموا المقهى أفردوا فيه بازاراً يجمع كثيراً من المقتنيات التراثيّة ذات الوجه العربيّ الفلسطينيّ و الأردنيّ ، نذكر منها :
1- الشَّعوب , و هو آلة تُستخدم في مواسم الحَصاد ، لهُ شكل شوكة كبيرة خشبيّة لِقلب الحصاد على البيدر .
2- السِّلال ، التي كانت تُستخدم قديماً لجمع جنى الثّمار من الحقول .
3- القناديل , التي كان يستضيىءُ بِها أجدادنا في الليل و في النهارات العاتمة .
4- بابور الكاز ,و قد استخدمه الفلسطينيّون في الرّيف بديلاً عن السَّخان الكهربائيِّ المُعاصر .
5- الأواني و الأطباق النحاسيّة المصنوعة يدويّاً و هي مزخرفة بأشكال هندسيّة و مزيّنة بأنواع مختلفة من الأزاهير .
بالإضافة إلى النّراجيل القديمة , و الجرار الفخّارية التي تُستخدم لطبخ الفول و تحضير سائر الأطعمة .
ماذا عن جفرا ؟ من أين أتت التسميّة ، و هل لها علاقة بالوطن ؟
جفرا ليست إسم قريّة أو مدينة كما يتبادر إلى الأذهان ، هي تسمية تدلّ على العنفوان ، و أصلها يعود إلى أنّها كانت تُطلق على صغار الماعز التي لم تتجاوز العام الواحد من عمرها و قد أسقط الإسم لاحقاً على كل صبيّة في مرحلة ما قبل الزّواج ، فهو يدلّ على العنفوان و القوّة في كلّ شيىء .
و قصّةُ جفرا تقول : إنّ شاباً أحبّ صبيّة من قريّة فلسطينيّة و تزوّجها على غير إرادتها , و من هُنا جاء هذا الإسم تعبيراً عن رفضها لهذا الواقع . و لم تلبث أن انفصلت عن زوجها، رغم أنّه ابن عمّها و هذا شيىء مُخالف للتّقاليد الرّيفيّة في فلسطين تحديداً .
الشاب كان شاعراً تقليديّاً يَنظُمُ قصائد " الميجانا و العتابا " و هو لونٌ من الشّعر الشعبيّ الذي ذاع في بلاد الشام قديماً . و قد نتج عن انفصالها عنهُ أن أصابتهُ لوثة من الجنون ، أخفت وراءها عجزه عن استيعاب فكرة طلاقها أو ذكر اسمها لأنّها فكرة تطعن في شرفه و كبريائه ، و لكنّه إقراراً بفتّوتها و عنفوانها أطلق عليها إسم جفرا ، و لكنّ هذا الإسم لم يلبث أن أصبح مصطلحاً رفضويّاً يحمل في طياته رمز الإباء و القوّة و العنفوان . تناوله كثير من الشعراء الفلسطينيّن و الأردنييّن كان من بينهم كبار شعرائنا :
سميح القاسم و الرّاحل محمود درويش ، عز الدين المناصرة الذي كتب : جفرا هي الربيع , و غناها مارسيل خليفة .
و قد غدا هذا الإسم- المصطلح رديفاً للوطن , كونه مرتبطاً بالقوّة و الثورة و الفتوة , و تمّ تناوله يشكل أوسع حتّى أصبح شعاراً للقضيّة الفلسطينيّة .
جميلٌ أن يضُمَّ هذا المقهى كلّ هذه الأصالة من الإرث الفلسطينيّ , مع أنّهُ مكانٌ للإجتماع و التسليّة .
و لكم يكون أجمل لو تقوم في مدننا مقاهٍ مماثلة لهذا المقهى في عمَّان , ذلك أنَّ إجتماع الإنسان بالإنسان في موضعٍ أعدَّ أساساً للتّسليّة و التّرفيه و احتساء القهوة و الشاي و تدخين النرجيلة ، يظلّ يحمِلُ في عمقهِ تواشجاً بين ماضٍ مُقيم و حاضر يدنو إلى مستقبلٍ وضّاح .
دانية بقسماطي
نُشر هذا التحقيق في صحيفة النهّار اللبنانيّة بتاريخ 13كانون الأوّل 2009
بعنوان " سوسيولوجيا العيش في عمّان " بالتزامن مع نشره في موقع جماليا الثقافيّ
وممّا هو مشترك بين هذه العواصم –ومنها عمّان بالطّبع- ازدحام أسواقها بالنّاس، من سكّان العاصمة ومَن وفَدَ إليها من البلدات المجاورة أو السّيّاح، فإنّهم جميعاً، باستثناء الأجانب، يتخاطبون أو يساومون الباعة في الطّرق، بفصحى مُمصّرة من القاهرة، أو مُسوّرة من الشّام، أو مُلبْننة من بيروت، أو مُسودنة من الخرطوم، أو مُؤرْدنَة ومُفلسْطَنَة من عمّان وبيت المقدس... ومع ذلك، فالمصريّ والشّاميّ واللبنانيّ والسودانيّ قادرون على التّحادث مع إبن عمّان الأردنيّ والفلسطينيّ بيُسْرٍ والتّفاهم معه. ولا شكّ أنّ وسائل الإعلام في كلّ عاصمة عربيّة جادّة بفصحاها على إزالة هذه الفوارق ولكنّها عاجزة عن تجاوز الخصوصيّة المحليّة لكلّ لهجة عجْزَ إلغاء التّفاح ونكهة البرتقال وتذويبهما في نكهة واحدة مثلى. إنّ هذه الظّاهرة شبه الثّابتة في الّلهجات قديمة لم تقدر وحدة الحكم في الإسلام سابقاً على محوها والخلاص منها... ولكنّ الّلافت في هذا المجتمع العمّانيّ، خلال تجوالك في السّوق، الحجاب الذي كان يغطّي رؤوس تسعين بالمئة من النّساء، وقد ذكّرني هذا المشهد بالرّاهبات اللواتي يخفين شعورهنّ وخدودهنّ بغطاء مشدود الأطراف، ويتلحّفنَ بثوب فضفاض طويل أسود اللون يخفي معالم الجسد الأنثويّ من تفاصيله كافّة. على أنّ ما رأيته في السّوق لم يكن حجاباً موحّداً: فمن النّساء من أخفين الرّأس بتمامه، ينظرن إلى الطّريق والنّاس والأشياء من خلال نسيجٍ متعدّد الطّبقات، متهدّل فوق الوجه، أو من خلال فراغ أفقي ضيق يتيح للعينين الإبصار على حساب محو معالم الوجه الأخرى... وهناك الحجاب المتعدّد الألوان الذي يغطّي الشّعر والأذنين وصفحة الخدّين ويترك للمرأة ظاهر الوجه طليقاً باعتبار أن العينين والأنف والفم ليست عورة. وثمّة اللّباس النسويّ الفلسطينيّ الذي يكون الحجاب جزءاً منه. ففي الرّيف الفلسطينيّ، لا سيّما ريف الضفّة والجليل، بما يتخلّلهما من مدن، ترتدي المرأة فيه ثوبأً ذا لون واحد غالباً: أسود، أخضر، أحمر، أصفر... مخيّطاً على قدّ جسمها، طويلاً حتّى الكاحلين، وهو مطرّز الصّدر والكمّين بخيوط ذهبيّة، أو بخيطان متعدّدة الألوان متّسقة في حوكها وشكلها البديع وزركشتها الأنيقة. والطّريف في هذا الضّرب من الثّياب، أنّ لكلّ قرية من هذا الرّيف أزياء خاصّة بالمرأة تميّزها عن المرأة الأخرى في القرى المجاورة أو البعيدة. وبالتّالي فإنّه يلي الثّوب المميّز هذا، منديل يغطّي الرّأس، ما عدا الوجه، معقود في مستوى العنق أو أعلى قليلاً، فوقه "طرحة" حريريّة أو من الموسلين تتهدّل بمستوى قمّة الرّأس على الكتفين واليدين حتى أسفل الوركين، وقد انفتح ظرفاها الأماميان على واجهة الصّدر المطرّز. واللاّفت أنّ لبس الحجاب عند المرأة الفلسطينيّة تحديداً، والأردنيّة على العموم، ليس وقفاً على طبقة واحدة, فقد تجد أنّ شيوع ارتدائه بين نساء الطّبقة الميسورة لا يقلّ عن شيوع ارتدائه عند الطّبقة المتوسّطة أو الفقيرة بدافع من التمسّك بأهداب الفضيلة والحشمة اللتين يدعو إليهما الإسلام. والحقّ أنّه ليس من شأن هذا الإستطلاع الوجيز أن يبحث في إيمان النّاس وخياراتهم في ظلّ ظروف غيّرت في مواقع الجماهير الإجتماعيّة؛ فلعلم الإجتماع رأي يختلف في تفسير وتحليل هذه الظاهرة التي كان لها حضور في المجتمعات العربيّة، مرهونٌ اتّساعه أو ضيقه بظروف الرّخاء الدّيموقراطيّ أو العُسر القمعيّ، وبمدى الإنفتاح أو التقّوقع، وبمستوى الوعي وتفسير الإجتماع وغيره بالعلم، أو بالركون إلى الجهل والتواكل والإرتماء في أحضان التّقليد والخرافة والغيب... ولكن، على الرّغم ممّا لهذه الظّاهرة الكاسحة من حضور طاغٍ، يبقى في كلّ مجتمع مساحات مضيئة، ورئات سليمة يتنفّس من خلالها الطُلقاء من أسر التقليد والفنّانون والمفكّرون والشّعراء والتّشكيليون، وهي ليست قليلة، منها مقهى جفرا.
مقهى جفرا في عمَّان ، تدخلُ إليه عابراً سوقاً قديمةً تُخاصركَ على جانبيها أعمدةٌ تُطلُّ من خلفها نوافذ بيوت عتيقة يُغطيها زجاج تفوح من أشكاله الهندسيّة ألوانٌ شتّى ، فيما تتدلّى من سقوف الزّقاق قناديل توزّع الضوء على أرجائه .
تصعدُ على أكتاف درجٍ حجريٍّ يَحملك إلى باب المقهى .
ترى إلى يمينك لوحة خَزفيّة تتعانق فيها الحروف ، حروفٌ كوفيّة مورقة ، قالت :
" من لم يعرف جفرا ، فلِيدفن رأسه "
غضبتُ من قدميَّ لأنهما لم تقوداني إلى معرفة جفرا من قبل , و لكنّي حييتُ الطّريق التي قادتني إليه و تركتُ العتبة أن تُعطيني يديها .
تدخلُ بهواً واسعاً يتناسلُ شعراً ، فناً ، دفئاً و بهاءً .
تُقابلك وجوهٌ هادئةٌ مفعمةٌ بالصّمت و التّأمل و السّكينة , وجوه تقرأ ، تشرد ، تتنهّد ، تتأوّه ، تحلّم , تحبّ , تتمرّد و أخيراً تضحكْ . فيما لوحة الشاعر العملاق محمود درويش ، شاعر القلق تتربّع على عرش المكان .
المكانُ , كتابٌ يخطُّ تاريخ ميراثنا , ماضينا و أشيائنا الحاضرة
الضوء يقرأ ، و نحنُ أجنحةٌ تُصغي :
أسند رأسك أيّها الزائر و أصغِ إلى الغيوم السابحة في الفضاء و على وجه الأشياء تُقطِّّر عليكَ أناشيد مواسم تتذوّق فيها رائحة التّراب و زغردة الأرض و إياب المسافر الحاضر الغائب .
دخلتُ محمولةً على أجنحةِ الدهشة و الانبهار و سمحتُ لنفسي أن أطلب من الأستاذ " سامي شفيق " بصفته أميناً للمكتبة أن يحدّثني عن هذا المكان الذي هو أشبه شيىء ببيت , قال :
فكرة إنشاء المكتبة أو مقهى " كوفيه شوب " على نحوٍ مُتميّز عن باقي المقاهي ، فكرةٌ تقوم على المباينة و الفرادة في خلق مناخ يُمكن للزّائر فيه أن يتصفّح ما يستسيغ من الكتب أو الصحف في أثناء احتسائه القهوة أو تناوله الفطور , و لا سيما الجريدة اليومية التي تُوفّر للزائر فكرة الإستمرار في متابعة الحياة اليوميّة .
يحفلُ المقهى فضلاً عن المكتبة بألوانٍ من المقتنيات التّراثيّة التي تبرَّع بها نفرٌ من المثقفين الفلسطنييّن و الأردنّييّن في عمَّان , و هي غير مُعدَّة للبيع أو للإعارة .
جديرٌ بالذكر أنَّ هذه المكتبة تضمُّ في رفوفها دواوين شعريّة و كتباً أدبيّة و أسفاراً فنيّة و مباحث سياسيّة ذات حضور واضح في حياة روّاد المقهى , كما أنَّ ثمّة كتباً تنتمي إلى لغات أجنبيّة مختلفة لتأمين الحضور الفكريّ و النفسيّ لِمن يرتاده من الأجانب .
و اللافت أن الذين صمّموا المقهى أفردوا فيه بازاراً يجمع كثيراً من المقتنيات التراثيّة ذات الوجه العربيّ الفلسطينيّ و الأردنيّ ، نذكر منها :
1- الشَّعوب , و هو آلة تُستخدم في مواسم الحَصاد ، لهُ شكل شوكة كبيرة خشبيّة لِقلب الحصاد على البيدر .
2- السِّلال ، التي كانت تُستخدم قديماً لجمع جنى الثّمار من الحقول .
3- القناديل , التي كان يستضيىءُ بِها أجدادنا في الليل و في النهارات العاتمة .
4- بابور الكاز ,و قد استخدمه الفلسطينيّون في الرّيف بديلاً عن السَّخان الكهربائيِّ المُعاصر .
5- الأواني و الأطباق النحاسيّة المصنوعة يدويّاً و هي مزخرفة بأشكال هندسيّة و مزيّنة بأنواع مختلفة من الأزاهير .
بالإضافة إلى النّراجيل القديمة , و الجرار الفخّارية التي تُستخدم لطبخ الفول و تحضير سائر الأطعمة .
ماذا عن جفرا ؟ من أين أتت التسميّة ، و هل لها علاقة بالوطن ؟
جفرا ليست إسم قريّة أو مدينة كما يتبادر إلى الأذهان ، هي تسمية تدلّ على العنفوان ، و أصلها يعود إلى أنّها كانت تُطلق على صغار الماعز التي لم تتجاوز العام الواحد من عمرها و قد أسقط الإسم لاحقاً على كل صبيّة في مرحلة ما قبل الزّواج ، فهو يدلّ على العنفوان و القوّة في كلّ شيىء .
و قصّةُ جفرا تقول : إنّ شاباً أحبّ صبيّة من قريّة فلسطينيّة و تزوّجها على غير إرادتها , و من هُنا جاء هذا الإسم تعبيراً عن رفضها لهذا الواقع . و لم تلبث أن انفصلت عن زوجها، رغم أنّه ابن عمّها و هذا شيىء مُخالف للتّقاليد الرّيفيّة في فلسطين تحديداً .
الشاب كان شاعراً تقليديّاً يَنظُمُ قصائد " الميجانا و العتابا " و هو لونٌ من الشّعر الشعبيّ الذي ذاع في بلاد الشام قديماً . و قد نتج عن انفصالها عنهُ أن أصابتهُ لوثة من الجنون ، أخفت وراءها عجزه عن استيعاب فكرة طلاقها أو ذكر اسمها لأنّها فكرة تطعن في شرفه و كبريائه ، و لكنّه إقراراً بفتّوتها و عنفوانها أطلق عليها إسم جفرا ، و لكنّ هذا الإسم لم يلبث أن أصبح مصطلحاً رفضويّاً يحمل في طياته رمز الإباء و القوّة و العنفوان . تناوله كثير من الشعراء الفلسطينيّن و الأردنييّن كان من بينهم كبار شعرائنا :
سميح القاسم و الرّاحل محمود درويش ، عز الدين المناصرة الذي كتب : جفرا هي الربيع , و غناها مارسيل خليفة .
و قد غدا هذا الإسم- المصطلح رديفاً للوطن , كونه مرتبطاً بالقوّة و الثورة و الفتوة , و تمّ تناوله يشكل أوسع حتّى أصبح شعاراً للقضيّة الفلسطينيّة .
جميلٌ أن يضُمَّ هذا المقهى كلّ هذه الأصالة من الإرث الفلسطينيّ , مع أنّهُ مكانٌ للإجتماع و التسليّة .
و لكم يكون أجمل لو تقوم في مدننا مقاهٍ مماثلة لهذا المقهى في عمَّان , ذلك أنَّ إجتماع الإنسان بالإنسان في موضعٍ أعدَّ أساساً للتّسليّة و التّرفيه و احتساء القهوة و الشاي و تدخين النرجيلة ، يظلّ يحمِلُ في عمقهِ تواشجاً بين ماضٍ مُقيم و حاضر يدنو إلى مستقبلٍ وضّاح .
دانية بقسماطي
نُشر هذا التحقيق في صحيفة النهّار اللبنانيّة بتاريخ 13كانون الأوّل 2009
بعنوان " سوسيولوجيا العيش في عمّان " بالتزامن مع نشره في موقع جماليا الثقافيّ
دانية بقسماطي- شــاعـرة المملكــة
-
عدد الرسائل : 371
العمر : 55
البلد الأم/الإقامة الحالية : طرابلس - لبنان
الهوايات : الكتابة
تاريخ التسجيل : 25/09/2008
مواضيع مماثلة
» مقهى الذاكرة 2
» ذاكرة الجلد
» تباريح ...من ذاكرة القمر
» يوميات من ذاكرة محمد (2 )
» يوميات من ذاكرة محمد (1)
» ذاكرة الجلد
» تباريح ...من ذاكرة القمر
» يوميات من ذاكرة محمد (2 )
» يوميات من ذاكرة محمد (1)
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى