في الإنترنيت والثقافة / يحيى اليحياوي
๑۩۩๑ المملكـــــــــــة الأدبيــــــــــــة ๑۩۩๑ :: مملكة التكنولوجيا والمعلومات والإتصالات :: كومبيوتر وإنترنيت :: منتدى الانترنيت و برامجه
صفحة 1 من اصل 1
في الإنترنيت والثقافة / يحيى اليحياوي
في الإنترنيت والثقافة - يحيى اليحياوي
كاتب وأكاديمي من المغرب
-1-
لا تعدم التعابير كثيرا في وصف ما أفرزته تكنولوجيا المعلومات وشبكات الاتصال نهاية القرن الماضي وبداية هذا القرن.
فالمجتمع الشبكي والمجتمع الرقمي ومجتمع الإعلام ومجتمع الاتصال والمعرفة كما القرية الكونية والمجتمع الإعلامي الكوني والديموقراطية الشبكية وما سواها, لا تعبر فقط عن " ولادة عصر المعلومات" كما نظر لذلك مانويل كاسطيل و دانيال بيل وغيرهما, بل وأيضا عن "انحسار" أفق التنظيرات التي سادت إلى حين عهد قريب حول المجتمع مابعد الصناعي أو مجتمع الخدمات ناهيك عن طروحات المجتمع الصناعي ومجتمع الاستهلاك الجماهيري وما سواها.
ليس ثمة شك أن الشبكات الألكترونية, وفي مقدمتها شبكة الإنترنيت, إنما دشنت حقا "لمرحلة جديدة" من التطور الإنساني تراجعت فيها (إلى حد الالتصاق ربما) ثنائية الزمن والمكان وطالت التعرية جراءها العديد من المفاهيم والتمثلات والمعايير.
والواقع أن شبكة العنكبوت التي انفرد الإنترنيت (دون سواه من مستجدات تكنولوجية سابقة) بتوسيعها لدرجة تغطيتها شتى أنحاء المعمور, لا تتميز فقط بكونها وفرت شروطا تقنية لربط ملايين الحواسيب بعضها البعض أو بكونها كانت وراء بروز بروتوكولات في الاتصال جديدة, ولكن أيضا وبالأساس لأنها نجحت في دمج مختلف شبكات الإعلام والاتصال التي كانت إلى حين وقت قريب مستقلة و مهنها إلى حد ما متنافرة.
وعلى الرغم من قيام المؤسسة العسكرية على الشبكة منذ نشأتها واحتكارها لوظائفها, فإن العلماء بدأوا في استخدامها منذ بداية سبعينات القرن الماضي مكسرين بذلك الحاجز القائم إلى حينه بين البحث ذي الأهداف العسكرية والبحث العلمي الخالص وليفتحوا في ذلك المجال, فيما بعد, لبروز شبكتين: الأولى خاصة بالاستعمالات العلمية والثانية للاستعمال العسكري الصرف لكنها تشتغل مجتمعة, منذ أواسط الثمانينات, تحت مسمى واحد هو الإنترنيت.
الحاصل إذن أن شبكة الإنترنيت, في نشأتها كما في مختلف مراحل تطورها, إنما حملت صفات كثيرة من "الثقافة" العسكرية التي كانت ثاوية خلفها, لكنها حملت في الآن ذاته, تطلعات الباحثين والعلماء لإيجاد صيغ للتواصل والتفاعل تحررهم من سلطة الحاسوب الشخصي المنغلق التي كانت سائدة بل ومهيمنة إلى حد كبير.
وهو ما أكسبها (شبكة الإنترنيت أعني) صفات الليونة والمرونة والانفتاح والتطلع إلى أن تبلغ الطابع "الجماهيري" عوض أن تبقى محصورة في نخب محدودة تشتغل في مجالات علمية محددة دونما انفتاح على ما سواها من استعمالات و تطبيقات.
والسر في تطورها السريع وانتشارها العالمي الكبير لا يرتبط فقط, فيما نعتقد, بطبيعتها غير الممركزة أوبانفتاح تصميمها و" نعومة"هيكلها, ولكن أيضا لأنها كانت ومنذ البدء مكمن رهانات اقتصادية وجيوسياسية كبيرة جعلت الفاعلين في قطاع المعلومات والاتصال والنشر وغيرهم, يلجأون إليها بطريقة أو بأخرى, بجهة هذا الاستعمال أو ذاك.
ولئن كان الجانب الثقافي آخر المفكر فيه إبان تصميم الشبكة كما طيلة مراحل تطورها, فإنه أضحى مع الزمن إحدى الأبعاد المركزية التي غالبا ما لا تستحضر كثيرا في طغيان الجانب التجاري والاقتصادي والمالي على ما سواه.
-2-
ليس ثمة من شك أن شبكة الإنترنيت, على الرغم من طبيعته التقنية الطاغية, إنما تمثل وبامتياز مادة تحليل غامضة ليس فقط لأنها تحيل على فضاء الإعلام وأدوات الاتصال, ولكن أيضا لأنها تمثل نقطة التقائها مجتمعة بفضل التكنولوجيات الرقمية وتكنولوجيا الضغط التي صهرتها في "حامل واحد" كما يقال.
وعملية الالتقاء الملمح إليها هنا لا تطال اندماج القطاعات الكبرى المكونة للشبكة فحسب, بل وكذلك الفاعلين في ذات القطاعات تصميما و تطويرا وترويجا وغيرها... وهو ما يبدو جليا واضحا على الأقل بالاحتكام إلى حجم التحالفات الاستراتيجية الضخمة التي تطالها زمنا وفي المكان.
من غير المبالغ فيه إذن القول بأن الشبكة إنما مأسست, ومنذ البداية, لانبعاث "اقتصاد جديد" مرتكز على إنتاج وتخزين وتداول واستهلاك المعلومات والمعطيات لا يبرز في خضمها المكون الثقافي إلا رافدا من الروافد ليس إلا.
والواقع أن البعد الثقافي بالإنترنيت لربما هو من بين المواضيع النادرة التي كانت مثار جدل كبير لكنها لم تبلغ مستوى التفكيك العميق لمكونات ذات البعد أو استشفاف طبيعته على خلفية من الدراسات الميدانية المدققة.
ومعنى هذا أنه لو سلمنا بإمكانية خدمة الإنترنيت للمسألة الثقافية سيما عندما يفسح لها في المجال للتجميع والتخزين والاستغلال والتوزيع, فإنه من غير المسلم به أنه يساهم في خلقها أو في إنتاجها أو في ابتكارها حتى.
هي أداة ليس إلا لترويج الثقافة (بعدما تخضع لعملية الرقمنة) ولا تبدو شرطا من شروط إنتاجها أو إعادة إنتاجها.
ومعناه أيضا بالمعطيات المجردة, أن الشبكة في وضعها الحالي إنما تعبر عن حاجيات قد لا يبدو معها للثقافة من مكان يذكر.
يقول مانويل كاسطيل بهذا الشأن: " إن استعمالات الإنترنيت في الغالب الأعم, إنما هي ذات طبيعة نفعية ومرتبطة بالعمل, بالعائلة أو بالحياة اليومية للمبحرين.
فالبريد الألكتروني يمثل أكثر من 85 بالمائة ويستخدم بالأساس لتلبية حاجات ومهام ذات طبيعة مهنية أو تطبيقية أولإبقاء التواصل مع العائلة ومع الأصدقاء في الحياة الواقعية ".
والملمح إليه هنا أساسا, إنما هيمنة الفردانية وغلبة الطقوس النافرة من الجماعة والمتواصلة عبر الحاسوب لدرجة يبدو معها الإنترنيت ولكأنه الرافع المادي المناسب لترويج ذات الفردانية وليس خالقها بالشبكة.
يبدو الأمر هنا إذن ولكأن الفرد هو الذي يخلق نظام تمثله الخاص به والذي تصبح الثقافة الافتراضية بمقتضاه هي "الثقافة الواقعية" كونها مصاغة أساسا وفق عمليات للتواصل افتراضية, ألكترونية...خالقة للمعنى نهاية المطاف.
لو تم للمرء التسليم, من الناحية العملية الخالصة على الأقل, بأن الإنترنيت إنما هو رافعة الثقافة الافتراضية, فإنه سيتم له التسليم, بتحصيل حاصل, أنه يخدم الثقافة بامتياز, يخدمها عبر خلقه لفضاء رمزي لها في التداول ويخدمها عبر سبل الترويج التي يمنحها إياها متجاوزا بذلك إكراهات الزمن والمكان.
والواقع أنه لو حصرنا المنتوج الثقافي في الكتاب مثلا لبرز جليا كيف أنه من الأشكال الثقافية الكبرى التي وجدت فيها التكنولوجيا الرقمية موضع تطبيق ومجال استخدام, لدرجة يذهب معها الاعتقاد إلى القول بأننا بهذه النقطة إنما بإزاء " تضخم في اقتناء النص المكتوب لهذه التكنولوجيا وتوسيع منقطع النظير لعرض المعلومات تتجاوز بكثير ما بإمكان الذهن البشري أن يعالجه".
وعلى هذا الأساس, يبدو "النشر الرقمي" ولكأنه يحمل في صلبه طرق كتابة جديدة وأنماط جديدة في القراءة, محررة من الإكراهات المرتبطة بالزمن والمكان لدرجة يمكن الاعتقاد معها أن الرقمنة تعطي لمؤلف الكتاب نفس إمكانات الآنية التي يتوفر عليها المتحدث.
ولئن كان ما يروج بالشبكة ليس ثقافة بالمعنى الأنتروبولوجي للكلمة على اعتبار كونها بالأساس خزان معلومات ومكمن بنوك معطيات تروج للآني والسريع التقادم, فإنها في جزء منها أيضا أداة لتصفية ذلك وغربلته لتفرز العناصر إذا لم تكن الثقافية الخالصة فبالتأكيد الأقرب إلى ذلك.
ومعنى هذا أن ما يروج بالشبكة إنما هو بالأساس معلومات وأخبار وبيانات ومعطيات سمتها المركزية الآنية وعدم القارية تماما كباقي وسائل الإعلام المعتادة. بالتالي فنسبة ما هو متواجد بالشبكة على أساس كونه " ثقافة" تبقى متواضعة إلى حد بعيد قياسا إلى حجم المعلومات العامة المروجة بمختلف مواقع الشبكة إياها.
ولما كان منطق المعلومة هو إلى حد بعيد منطق الذيوع والانتشار السريع, فإن منطق الثقافة ينبني عكس ذلك على مبدأ التملك الاجتماعي واستقرار التوجه, وهو ما يجعل من نقل المعلومة أمرا هينا في حين أن تنقل الثقافة والمعارف يبقى إشكالا حقيقيا كونهما لا ينشدان نفس الغاية ولا يتموطنان في البنى الاجتماعية والثقافية القائمة بنفس الوتيرة ولا بنفس الطريقة.
-3-
من شبه المؤكد اليوم أن ما يروج بشبكة الإنترنيت إنما هو معلومات وأخبار ومعطيات وبيانات في جزء كبير منها غير مهيكلة وغير قارة حتى تنطبق عليها مواصفات الثقافة بمعناها الأنتروبولوجي المتداول.
والواقع أن طبيعة المواقع القائمة بالشبكة, كما طبيعة المؤسسات الثاوية خلف المواقع إياها, لا يشي في تقييم أولي عام على الأقل, أن الشبكة قد صممت أساسا لترويج المنتوجات الثقافية (فبالأحرى إنتاجها أو إعادة إنتاجها) بقدر ما هي مصممة لبيع وشراء سلع وخدمات لا تبدو لها متميزة عما سواها.
بالمقابل, فلما كانت معظم المواقع منشؤها الدول المتقدمة (شركات أو مؤسسات) حيث اللغة الإنجليزية هي اللغة السائدة فإن الملاحظ أن العديد من ثقافات ولغات العالم تغدو غير ممثلة... أعني لا موطأ قدم لها بالشبكة سواء كمحتويات أو كلغة تواصل.
قد لا تبدو الشبكة إقصائية في طبعها أو متمركزة بحكم طبيعة هيكلتها حول ذات الدول, لكنها كذلك وأكثر احتكاما إلى مضامينها وحصة كل ثقافة أو لغة منها.
بالتالي, فلو كان للمرء أن يحصر "الطبيعة الثقافية" الثاوية خلف الشبكة لوقف إجمالا عند ثلاثة مستويات كبرى:
+ المستوى الأول ويحيل حتما على خاصية التبادل التي تدفع بها الشبكة وتجعل منها فضاء تجاريا خالصا إذا لم يكن بالاقتناء المباشر, فحتما عبر خلق الحاجة إلى الاقتناء.
+ أما المستوى الثاني فيتعلق ب" ثقافة السرعة" التي تقدمها الشبكة على ما سواها, إذ لم يعد المقياس بالشبكة محصورا على قيمة الارتباط بقدر ما أضحى لصيقا بسرعة ذات الارتباط في الزمن والمكان.
+ المستوى الثالث ويتمثل في سلوك الاستهلاك الذي يتراءى للمرء من خلال الإبحار في معظم مواقع الشبكة والمتمظهر في ضخامة حجم الإعلانات المتزايد بها ومستويات الاقتناء المترتبة عن ذلك.
من تحصيل حاصل إذن القول بأن الشبكة لا تحيل على الثقافة أو المعارف بقدر ما تحيل على السوق ومبادئ اقتصاد السوق.
قد لا يكون الأمر مثار عيب كبير يذكر, لكن القائم أن منطق الثقافة ليس بالضرورة من منطق السوق, بل قل هما فضاءان متوازيان حتى وإن كانا متكاملين, فلا " قيمة" تذكر لمحتويات " ثقافية" بالشبكة إذا لم تقم على تقييمها أدوات السوق...وهو ما يجعل من ذات المحتويات " سلعة" استهلاكية لا يمكن تعييرها بمقاييس الثقافة.
بالتالي فمكامن الخطر لا تتأتى فقط من توجه السوق بجهة دغم كل المستويات (حتى الثقافية منها), بل وأيضا من جنوحه إلى دمج المستوى الافتراضي ذاته ليضحو بدوره مكونا من مكونات السوق لا حكم للثقافة عليه.
* * *
يحيى اليحياوي
كاتب وأكاديمي من المغرب
كاتب وأكاديمي من المغرب
-1-
لا تعدم التعابير كثيرا في وصف ما أفرزته تكنولوجيا المعلومات وشبكات الاتصال نهاية القرن الماضي وبداية هذا القرن.
فالمجتمع الشبكي والمجتمع الرقمي ومجتمع الإعلام ومجتمع الاتصال والمعرفة كما القرية الكونية والمجتمع الإعلامي الكوني والديموقراطية الشبكية وما سواها, لا تعبر فقط عن " ولادة عصر المعلومات" كما نظر لذلك مانويل كاسطيل و دانيال بيل وغيرهما, بل وأيضا عن "انحسار" أفق التنظيرات التي سادت إلى حين عهد قريب حول المجتمع مابعد الصناعي أو مجتمع الخدمات ناهيك عن طروحات المجتمع الصناعي ومجتمع الاستهلاك الجماهيري وما سواها.
ليس ثمة شك أن الشبكات الألكترونية, وفي مقدمتها شبكة الإنترنيت, إنما دشنت حقا "لمرحلة جديدة" من التطور الإنساني تراجعت فيها (إلى حد الالتصاق ربما) ثنائية الزمن والمكان وطالت التعرية جراءها العديد من المفاهيم والتمثلات والمعايير.
والواقع أن شبكة العنكبوت التي انفرد الإنترنيت (دون سواه من مستجدات تكنولوجية سابقة) بتوسيعها لدرجة تغطيتها شتى أنحاء المعمور, لا تتميز فقط بكونها وفرت شروطا تقنية لربط ملايين الحواسيب بعضها البعض أو بكونها كانت وراء بروز بروتوكولات في الاتصال جديدة, ولكن أيضا وبالأساس لأنها نجحت في دمج مختلف شبكات الإعلام والاتصال التي كانت إلى حين وقت قريب مستقلة و مهنها إلى حد ما متنافرة.
وعلى الرغم من قيام المؤسسة العسكرية على الشبكة منذ نشأتها واحتكارها لوظائفها, فإن العلماء بدأوا في استخدامها منذ بداية سبعينات القرن الماضي مكسرين بذلك الحاجز القائم إلى حينه بين البحث ذي الأهداف العسكرية والبحث العلمي الخالص وليفتحوا في ذلك المجال, فيما بعد, لبروز شبكتين: الأولى خاصة بالاستعمالات العلمية والثانية للاستعمال العسكري الصرف لكنها تشتغل مجتمعة, منذ أواسط الثمانينات, تحت مسمى واحد هو الإنترنيت.
الحاصل إذن أن شبكة الإنترنيت, في نشأتها كما في مختلف مراحل تطورها, إنما حملت صفات كثيرة من "الثقافة" العسكرية التي كانت ثاوية خلفها, لكنها حملت في الآن ذاته, تطلعات الباحثين والعلماء لإيجاد صيغ للتواصل والتفاعل تحررهم من سلطة الحاسوب الشخصي المنغلق التي كانت سائدة بل ومهيمنة إلى حد كبير.
وهو ما أكسبها (شبكة الإنترنيت أعني) صفات الليونة والمرونة والانفتاح والتطلع إلى أن تبلغ الطابع "الجماهيري" عوض أن تبقى محصورة في نخب محدودة تشتغل في مجالات علمية محددة دونما انفتاح على ما سواها من استعمالات و تطبيقات.
والسر في تطورها السريع وانتشارها العالمي الكبير لا يرتبط فقط, فيما نعتقد, بطبيعتها غير الممركزة أوبانفتاح تصميمها و" نعومة"هيكلها, ولكن أيضا لأنها كانت ومنذ البدء مكمن رهانات اقتصادية وجيوسياسية كبيرة جعلت الفاعلين في قطاع المعلومات والاتصال والنشر وغيرهم, يلجأون إليها بطريقة أو بأخرى, بجهة هذا الاستعمال أو ذاك.
ولئن كان الجانب الثقافي آخر المفكر فيه إبان تصميم الشبكة كما طيلة مراحل تطورها, فإنه أضحى مع الزمن إحدى الأبعاد المركزية التي غالبا ما لا تستحضر كثيرا في طغيان الجانب التجاري والاقتصادي والمالي على ما سواه.
-2-
ليس ثمة من شك أن شبكة الإنترنيت, على الرغم من طبيعته التقنية الطاغية, إنما تمثل وبامتياز مادة تحليل غامضة ليس فقط لأنها تحيل على فضاء الإعلام وأدوات الاتصال, ولكن أيضا لأنها تمثل نقطة التقائها مجتمعة بفضل التكنولوجيات الرقمية وتكنولوجيا الضغط التي صهرتها في "حامل واحد" كما يقال.
وعملية الالتقاء الملمح إليها هنا لا تطال اندماج القطاعات الكبرى المكونة للشبكة فحسب, بل وكذلك الفاعلين في ذات القطاعات تصميما و تطويرا وترويجا وغيرها... وهو ما يبدو جليا واضحا على الأقل بالاحتكام إلى حجم التحالفات الاستراتيجية الضخمة التي تطالها زمنا وفي المكان.
من غير المبالغ فيه إذن القول بأن الشبكة إنما مأسست, ومنذ البداية, لانبعاث "اقتصاد جديد" مرتكز على إنتاج وتخزين وتداول واستهلاك المعلومات والمعطيات لا يبرز في خضمها المكون الثقافي إلا رافدا من الروافد ليس إلا.
والواقع أن البعد الثقافي بالإنترنيت لربما هو من بين المواضيع النادرة التي كانت مثار جدل كبير لكنها لم تبلغ مستوى التفكيك العميق لمكونات ذات البعد أو استشفاف طبيعته على خلفية من الدراسات الميدانية المدققة.
ومعنى هذا أنه لو سلمنا بإمكانية خدمة الإنترنيت للمسألة الثقافية سيما عندما يفسح لها في المجال للتجميع والتخزين والاستغلال والتوزيع, فإنه من غير المسلم به أنه يساهم في خلقها أو في إنتاجها أو في ابتكارها حتى.
هي أداة ليس إلا لترويج الثقافة (بعدما تخضع لعملية الرقمنة) ولا تبدو شرطا من شروط إنتاجها أو إعادة إنتاجها.
ومعناه أيضا بالمعطيات المجردة, أن الشبكة في وضعها الحالي إنما تعبر عن حاجيات قد لا يبدو معها للثقافة من مكان يذكر.
يقول مانويل كاسطيل بهذا الشأن: " إن استعمالات الإنترنيت في الغالب الأعم, إنما هي ذات طبيعة نفعية ومرتبطة بالعمل, بالعائلة أو بالحياة اليومية للمبحرين.
فالبريد الألكتروني يمثل أكثر من 85 بالمائة ويستخدم بالأساس لتلبية حاجات ومهام ذات طبيعة مهنية أو تطبيقية أولإبقاء التواصل مع العائلة ومع الأصدقاء في الحياة الواقعية ".
والملمح إليه هنا أساسا, إنما هيمنة الفردانية وغلبة الطقوس النافرة من الجماعة والمتواصلة عبر الحاسوب لدرجة يبدو معها الإنترنيت ولكأنه الرافع المادي المناسب لترويج ذات الفردانية وليس خالقها بالشبكة.
يبدو الأمر هنا إذن ولكأن الفرد هو الذي يخلق نظام تمثله الخاص به والذي تصبح الثقافة الافتراضية بمقتضاه هي "الثقافة الواقعية" كونها مصاغة أساسا وفق عمليات للتواصل افتراضية, ألكترونية...خالقة للمعنى نهاية المطاف.
لو تم للمرء التسليم, من الناحية العملية الخالصة على الأقل, بأن الإنترنيت إنما هو رافعة الثقافة الافتراضية, فإنه سيتم له التسليم, بتحصيل حاصل, أنه يخدم الثقافة بامتياز, يخدمها عبر خلقه لفضاء رمزي لها في التداول ويخدمها عبر سبل الترويج التي يمنحها إياها متجاوزا بذلك إكراهات الزمن والمكان.
والواقع أنه لو حصرنا المنتوج الثقافي في الكتاب مثلا لبرز جليا كيف أنه من الأشكال الثقافية الكبرى التي وجدت فيها التكنولوجيا الرقمية موضع تطبيق ومجال استخدام, لدرجة يذهب معها الاعتقاد إلى القول بأننا بهذه النقطة إنما بإزاء " تضخم في اقتناء النص المكتوب لهذه التكنولوجيا وتوسيع منقطع النظير لعرض المعلومات تتجاوز بكثير ما بإمكان الذهن البشري أن يعالجه".
وعلى هذا الأساس, يبدو "النشر الرقمي" ولكأنه يحمل في صلبه طرق كتابة جديدة وأنماط جديدة في القراءة, محررة من الإكراهات المرتبطة بالزمن والمكان لدرجة يمكن الاعتقاد معها أن الرقمنة تعطي لمؤلف الكتاب نفس إمكانات الآنية التي يتوفر عليها المتحدث.
ولئن كان ما يروج بالشبكة ليس ثقافة بالمعنى الأنتروبولوجي للكلمة على اعتبار كونها بالأساس خزان معلومات ومكمن بنوك معطيات تروج للآني والسريع التقادم, فإنها في جزء منها أيضا أداة لتصفية ذلك وغربلته لتفرز العناصر إذا لم تكن الثقافية الخالصة فبالتأكيد الأقرب إلى ذلك.
ومعنى هذا أن ما يروج بالشبكة إنما هو بالأساس معلومات وأخبار وبيانات ومعطيات سمتها المركزية الآنية وعدم القارية تماما كباقي وسائل الإعلام المعتادة. بالتالي فنسبة ما هو متواجد بالشبكة على أساس كونه " ثقافة" تبقى متواضعة إلى حد بعيد قياسا إلى حجم المعلومات العامة المروجة بمختلف مواقع الشبكة إياها.
ولما كان منطق المعلومة هو إلى حد بعيد منطق الذيوع والانتشار السريع, فإن منطق الثقافة ينبني عكس ذلك على مبدأ التملك الاجتماعي واستقرار التوجه, وهو ما يجعل من نقل المعلومة أمرا هينا في حين أن تنقل الثقافة والمعارف يبقى إشكالا حقيقيا كونهما لا ينشدان نفس الغاية ولا يتموطنان في البنى الاجتماعية والثقافية القائمة بنفس الوتيرة ولا بنفس الطريقة.
-3-
من شبه المؤكد اليوم أن ما يروج بشبكة الإنترنيت إنما هو معلومات وأخبار ومعطيات وبيانات في جزء كبير منها غير مهيكلة وغير قارة حتى تنطبق عليها مواصفات الثقافة بمعناها الأنتروبولوجي المتداول.
والواقع أن طبيعة المواقع القائمة بالشبكة, كما طبيعة المؤسسات الثاوية خلف المواقع إياها, لا يشي في تقييم أولي عام على الأقل, أن الشبكة قد صممت أساسا لترويج المنتوجات الثقافية (فبالأحرى إنتاجها أو إعادة إنتاجها) بقدر ما هي مصممة لبيع وشراء سلع وخدمات لا تبدو لها متميزة عما سواها.
بالمقابل, فلما كانت معظم المواقع منشؤها الدول المتقدمة (شركات أو مؤسسات) حيث اللغة الإنجليزية هي اللغة السائدة فإن الملاحظ أن العديد من ثقافات ولغات العالم تغدو غير ممثلة... أعني لا موطأ قدم لها بالشبكة سواء كمحتويات أو كلغة تواصل.
قد لا تبدو الشبكة إقصائية في طبعها أو متمركزة بحكم طبيعة هيكلتها حول ذات الدول, لكنها كذلك وأكثر احتكاما إلى مضامينها وحصة كل ثقافة أو لغة منها.
بالتالي, فلو كان للمرء أن يحصر "الطبيعة الثقافية" الثاوية خلف الشبكة لوقف إجمالا عند ثلاثة مستويات كبرى:
+ المستوى الأول ويحيل حتما على خاصية التبادل التي تدفع بها الشبكة وتجعل منها فضاء تجاريا خالصا إذا لم يكن بالاقتناء المباشر, فحتما عبر خلق الحاجة إلى الاقتناء.
+ أما المستوى الثاني فيتعلق ب" ثقافة السرعة" التي تقدمها الشبكة على ما سواها, إذ لم يعد المقياس بالشبكة محصورا على قيمة الارتباط بقدر ما أضحى لصيقا بسرعة ذات الارتباط في الزمن والمكان.
+ المستوى الثالث ويتمثل في سلوك الاستهلاك الذي يتراءى للمرء من خلال الإبحار في معظم مواقع الشبكة والمتمظهر في ضخامة حجم الإعلانات المتزايد بها ومستويات الاقتناء المترتبة عن ذلك.
من تحصيل حاصل إذن القول بأن الشبكة لا تحيل على الثقافة أو المعارف بقدر ما تحيل على السوق ومبادئ اقتصاد السوق.
قد لا يكون الأمر مثار عيب كبير يذكر, لكن القائم أن منطق الثقافة ليس بالضرورة من منطق السوق, بل قل هما فضاءان متوازيان حتى وإن كانا متكاملين, فلا " قيمة" تذكر لمحتويات " ثقافية" بالشبكة إذا لم تقم على تقييمها أدوات السوق...وهو ما يجعل من ذات المحتويات " سلعة" استهلاكية لا يمكن تعييرها بمقاييس الثقافة.
بالتالي فمكامن الخطر لا تتأتى فقط من توجه السوق بجهة دغم كل المستويات (حتى الثقافية منها), بل وأيضا من جنوحه إلى دمج المستوى الافتراضي ذاته ليضحو بدوره مكونا من مكونات السوق لا حكم للثقافة عليه.
* * *
يحيى اليحياوي
كاتب وأكاديمي من المغرب
العبيدي جو- المديـر العــام
-
عدد الرسائل : 4084
تاريخ التسجيل : 28/08/2008
مواضيع مماثلة
» رافع يحيى
» بين أمواج الزمن ؟ بقلم نازك الحلبي يحيى
» يحيى السماوي شاعر من مدينتي (عشـرة ُ أعـوام ٍ ـوما زلتُ على باب ِ هـواك صائـما متى إذنْ مـوعِـدُ إفـطاري ؟ ً
» بين أمواج الزمن ؟ بقلم نازك الحلبي يحيى
» يحيى السماوي شاعر من مدينتي (عشـرة ُ أعـوام ٍ ـوما زلتُ على باب ِ هـواك صائـما متى إذنْ مـوعِـدُ إفـطاري ؟ ً
๑۩۩๑ المملكـــــــــــة الأدبيــــــــــــة ๑۩۩๑ :: مملكة التكنولوجيا والمعلومات والإتصالات :: كومبيوتر وإنترنيت :: منتدى الانترنيت و برامجه
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى