محكمة

محكمة



كعادته أمام نظرات البائع المتهكمة ، أفرغ كل ما في جعبته .. أوراق ملونة ، غطاءً معدنياً - منديلاً نصف متسخ ، علبة كبريت ، قلم حبر جاف ، قطعة من الشوكولا و خمسون ليرة .
إكتشف وهو يبحث في ظلام سترته قطعة نقدية أخرى مكتوب عليها - عشرة ليرات سورية .
بأصابع مرتعشة حاول ترتيب بضاعته على طاولة البائع ، إختار بعضها ليعيده إلى جيب سترته ، ترك الباقي قدام البائع .
- طيب هذول ما راح يكّفو .قال البائع .
- نوع آخر على قدّ المصاري .. تمتم بحياء .
- طيب طيب .. عندي شي على قدّ مصرياتك .
- شك .. شكراً شكراً إلتقط علبة التبغ ذات الألوان اللامتناسقة .
-مع السلامة قال البائع وهو يحرك رأسه بطريقة بندولية .
تابع طريقه صوب الخابور القريب وهو يفكر بحركة رأس البائع البندولية .
ألقى جثته المتهالكة على مكان يعرفه قدام الناعورة ، وما زال يفكر بحركات رأس ويدي البائع ، هو ما يزال يعتقد أن حركات الجسد المترافقة مع الحوار لا تعني الحيوية والدم الحار وغيره من تبريرات بقدر ما هي محاولة رخيصة لاقناع الآخرين بأفكار رخيصة .
بحرص وأناقة شديدتين نزع غطاء زجاجة البراندي وفتح علبة تبغه ذات الألوان اللامتناسقة ، هو لا ينكر حقده على أبناء جلدته ، ويفسّر الحاجات وفق ما تمليه عليه حالته الآنية .
بهدوء مبالغ فيه إستل اللفافة الأولى ، عميقاً وطويلاً كان النفس الأول وبمتعة واضحة حبس الدخان في رئتيه أكثر من الوقت المعتاد ثم زفره دفعة واحدة .
بعد إحتراق الربع الأول من لفافة التبغ ونصف زجاجة البراندي ، بدأ يشعر بالدوار يداعبه بإنتشاء وخدر .
هو لم يدخن منذ يومين وحاجة دمه للنيكوتين أو جوع جسده للإحتراق مع تفعيل أثر البراندي في معدة خاويه ، جعلا الدوار سريعاً يأتي .
كان يبدو أكثر إتزاناً وحكمة وهو يراقب اللاشيء .
- حسناً قال في نفسه - من أين جاءت حركات الجسد ، كان يحاول أن يهرب من فوضى الأفكار في سماء الجمجة ، بعد أن أدرك أنه سيفشل في إعادة ترتيبها ، لا بد والحال كذلك أن يفكرفي شيء .. أي شيء .
كانت اللغة عارية مثل مولود جديد ، ثم أدخل الإنسان الأصوات والرسوم فكانت الكلمات ، الكلمات تسقط عليه مثل نيازك أُفلتت من مسارها لترسم وجهاً قبيحاً لرجل يدعى السياب ، وتردد الكلمات في محيطه . مطر مطر مطر .
وجهه الهزيل يراقب الخليج ، يلملم بقايا الحزن من دروب الذاكرة ، غريب على وجه الخليج . قدامه الماء وفوقه وخلفه مطر .. مطر .
يزداد الدوار .. ، عند إحتراق النصف الثاني من لفافته الثالثة إستسلم للخدر الساحر مغمضاً عينيه يراقب هذا الظلام العميق ... نقطين لم يستطع تحديد اللون والحجم فيهما ، تمضيان بعيداً مثل نورسين مريضين على على سطح اليمّ ،
إزداد خدره بشكل مخيف ، النورسين تحولا الى غيمتين تحومان فوق رأسه الآن وسوف تتحول الغيمتين سريعاً الى نجوم .. ثم عصافير تشكل حلقة دائرية تلتف حول الرأس .. وفوقه ، وبسرعة وصمت مشوّش تتحول العصافير الى أسماك .
- ربما هو الموت .... قال ، ثم قال ثانية لماذا تاج الأسماك حول رأسي .. أنا لست نبي الماء وهذا المهرجان ... أرجو ألا يكون الموت .
-مرحباً ... قاطعه صوت سمكة صغيرة كانت تدور في حلقة فوق رأسه
- مرحباً ... ولم يردف شيئاً آخر ، صعقته الصدمة
- يا سيدي زائر النهر ، أنا مرسال سلطان الماء إليك .. أرجو أن تتبعني .
دون تردد ، دون أن يفقه شيئاً ، إمتللك قوة تشبه إحتراق الطاقة ، ومضى خلف السمكة صوب الماء ، قدماه ... صدره .. رأسه الذي بدا صغيراً ... صغيراً جداً ، ثم اختفى ليعود النهر الى هدوئه الساحر والملغوم .
- أهلاً ..تفضل بالجلوس ، إستقبله صوت مفعم بالمودة والتعاون .
. كانت تتمدد على أكبر صخرة في الوادي الذي عجّ بأنواع الأسماك ، عن يمينها إصطفت مجموعة من السمكات وعن يسارها كذلك .
- هوذا سيدي القاضي - إنتفضت إحدى السمكات - كل ليلة والحال كذلك ، يأتي متسكعاً ويرمي زجاجات خمره في الماء ، علب سجائره الفارغة ، ويستحم آخر الليل ليرمي بقذارات جسمه في الماء ولا ينسى أن تبول قبل أن يغادر .... وهناك شاهد عيان يثبت أنه تغوّط في إحدى المرات .
.... إن مجرد وجوده يفزع سمكاتنا الصغيرات إعتقاداً منهن أنه من جماعة الصيادين القتلة ، ... تشويه الشاطيء ، تلويث الماء وإفزاع السمكات .. أطالب بتطبيق المادة الثالثة من دستور مرجان الماء .
- وماذا كنت ستفعل لو كان من الصيادين .. صوت .
- لا أقبل بأقل من تحطيم القارب ، تقطيع حبال الصيد .... لا أقبل .
حسناً سمعنا ما لديك ( صوت السمكة الكبيرة والمتمددة في الوسط ) لنسمع المتهم الآن .
- اسمك ..
- عاشور الحزن وحبيتي سمتني الماندارين .
- نعم يا عاشور وعمرك ?
- لا أذكره ...
- متزوج ...
- نعم .. وأطفالي مليء اليابسة هناك .. على الطرف الآخر .
- هممم .. نعم نعم هزت رأسها بطريقة بندولية ، فحضره على الفور بائع التبغ والخمرة .....
- وما يجيء بك الى الشاطيء ?
يا سيدي أحاول كل يوم صنع شيء جديداً . .شيئاً مفيد ، لكنها الأيام قهرتني يا سيدي ، أبنائي - تعرفهم - على الجانب الآخر ، يعتقدون أني سأعود كل يوم محمّلاً بالخبز والهدايا ،
زوجتي تقص عليهم كل يوم قصة البطل الذي ذهب الى الغابة والذي سيقطع من أشجار الياقوت ويبدله في سوق التجار بخبز وهدايا و .. سوف يعود ، كل يوم ... وكل يوم ينام أطفالي جوعى ...........
- سمعت أن هناك كثير من الخبز على الطرف الآخر ...
- ما سمعته صحيح يا سيدي ، لكن من يوزع حصص الخبز لا يعرف الحساب بشكل جيد ، فيوزع حصة لفلان وعشرة حصص لفلان .. وفلان يعود خالي الوفاض .
يا سيدي آخاف أن يموت أطفالي بسبب الجوع ، أو إن إعترضت على حصص الخبز أن أموت بسبب غير الجوع ...............
- حسناً .. حسناً فهمت ، الخطأ في الحساب إذاً أو فلنقل رجل الحساب .. لا بأس فهمت الأمر .
---- ضجيج أصوات الأسماك .. مداولات طويلة ثم .. بم بم بم صوت حجر يطرق على الصخرة الكبيرة ..
وإستطراد - النطق بالحكم -
ما ذكرته لا يعفيك من ذنوبك ، نعلم أنك إنسان ، وميزة هذا الإنسان أن يتحمّل ها القهر ويبتسم .. أن يمنح للقبح جمالاً وللموت حياة .
- حكمنا عليك أن تكنّس الشواطيء كل يوم ، أن تقتل خمسة من الصيادين وأن تطرد عشرة نوارس عن شواطئنا .....
................................. إنتهت المحكمة ................................

ملاحظة ;
في يوم كذا ، من تأريخ كذا ، وعلى ضفاف الخابور تم إكتشاف جثة رجل متعفنة ،
تقرير الطبيب الجنائي يؤكد أن الموت جرى نتيجة إختناق ولدخول الماء إلى الرئتين ويرجح أنها عملية إنتحار .
إنتهت
------
تم تقديم هذه المادة في مسابقة النثر لاتحاد الكتاب العرب والذي اقيم بمدينة حمص السورية للعام ١٩٨٥ وقد فازت بالجائزة الأولى على مستوى االقطر------------------------------
-

الاستاذ الشاعر العبيدي جو
قيل ان الدمع يغسل الذنوب يُطّهر الروح يجلي المآقي ، ولن اتخلى عنك يا سيدي جو سأشاركك - ان سمحت لي - حفل البكاء
- اتذكر يا صديقي حينما تُدار حلقة عزاء في الحسكة ، كانت النسوة تدعون بعضهن البعض لزيارة العزاء بقولهن ; يلا مشي تنروح نعزي ونبكي شوي ... بلكي نرتاح واللة مخنوقين ...
لك دموع الفرح والدهشة .. كُن بخير

الاستاذة فاطمة
نعم هي تفعل .. تتكرر وتتكرر ، هي الدنيا شُيدت على ناصيتين للأبيض أسود وللخير شر وللعدالة ظلم وللحق باطل . من يولد من رحم الآخر ؟؟؟
شكراً لربيع حضورك الدائم