قطراتُ قلم حول ديوان "غِبْطَةُ النَّحْتِ على أقدَامِ الرِّيَاح" لدانية بقسماطيّ
صفحة 1 من اصل 1
قطراتُ قلم حول ديوان "غِبْطَةُ النَّحْتِ على أقدَامِ الرِّيَاح" لدانية بقسماطيّ
قطراتُ قلم حول ديوان "غِبْطَةُ النَّحْتِ على أقدَامِ الرِّيَاح" لدانية بقسماطيّ
مارون عيسى الخوري
مارون عيسى الخوري
بدأت الحداثة في الغرب الأوروبي بقيام الثّورة الصّناعيّة ، فشرع الإنسان يشنّ حربه على الطبيعة للإنتصار عليها و تجريدها من أسرارها و خباياها حتى وصل إلى قمّة القلق على حياته و مصيره في منتصف القرن الماضي مع اكتشاف الطاقة الذريّة و أسلحة الدمار الشامل .
و بدأت الحداثة عندنا بمحمّد عليّ ، بعد رحيل بونابرت عن أرض النّيل ، بالمدرسة الحديثة
و خرّيجيها من كتّاب و مفكرين ، و بالمطبعة و الجريدة و الكتاب ... الخ ، و باتصال الغرب بالشّرق على نحوٍ أفضل تجاريّاً و سياحيّاً و ثقافيّاً ، و لكنّ هَمَّ ما كنّا فيه من فقر و تخلّف
و ظلم السّلطة و الأحكام و الحّكام ، لم يَعِ بثقلِه و فداحته و وِزْرِهُ إلاّ المفكّرون و حَمَلةُ الأقلام من مفكرين و كتّاب و شعراء ، و كان للآخرين منهم فضل حثّ الناس على التّغيير و الانتقال إلى حالٍ أفضل من خلال شعرهم الاجتماعيّ و السياسيّ ، و قلّما كان لشعر التأمّل بالذّات ،
فرداً و جماعة ، و بالمصير نصيب يُذكر . و الفرق بين الحداثتين ، أن الأوروبيّة منهما واكبت ثورات صناعيّة و اجتماعيّة و عقليّة و دينيّة أثّرت في نظرة الإنسان إلى نفسه ، و إلى الوجود و ما وراءه ونتجت عنها تغيرّاتٌ جمّة إنعكست بطبيعة الحال على وجدانه الفنّي ، و تجلّت في تعبيره الشعريّ ، فيما يصحّ أن نسّميه ثورة الشعر الحديث أو جملة من ثوراته , و أمّا الحداثة عندنا فلم تعرف شيئاً من هذا ، فهي لم تصاحب أيّاً من الثورات التي عرفتها أوروبة حتى تنفعل نظرته بها إبّان تطلّعه إلى الذّات و الوجود و ما بعده ، و انّما كانت حداثة محاكاة للشعر الآخر تأتّت له من فرط إدمانِ قراءته له ، فتسرّب إلى شعره التقليديّ نُسغٌ من التجديد طاول المضمون بنوع خاصّ ، و بعض الاسلوب في ألفاظه و تراكيبه و شىء من صوره و موسيقاه .
و من أبرز مَنْ مثّل هذا الايحاه خليل مطران و جماعة أبولو .
على أنّ ثمّة التباساً قد وقع في أذهان الباحثين بين الحداثة و المعاصرة . فالحداثة الشعريّة هي الثّورة على ترسّم خطى الأقدمين في موروثهم الإبداعيّ ، و التزام حركة الزّمن في تقدّمها خطوة خطوة بالتعبير عن التغيّر الذي يصحب الإنسان في فعله و فكره و معاشه و وجدانه وفنّه ... الخ . فإذا تراكم جماع هذه الثورة بعد حين أفضى إلى كيفٍ جديد حاضر سمّيناه المعاصرة . و على هذا فالمعاصرة هي كيفيّة جديدة في سياق الحداثة .
مجموعة شعريّة لدانية بقسماطيّ - صدرت حديثاً عن دار تالة ، دمشق 2010
إنّ شوقي و حافظ والأخطل الصغير حديثون ، بينما السّياب و البياتيّ و بلند الحيدريّ معاصرون ، و مثلهم محمود درويش و أدونيس اللذين تألّقا أكثر من رواد المعاصرة في صورهما ، إنْ في المناخ الانساني عند الأول ، و في المناخ الصوفي عند الثاني .
و قد نَحَتِ القصيدة عند المعاصرين الأوليين منحىً ثوريّاً في تحطيم قوالب الفراهيدي ، فما عاد البيت ذا شطرين لهما تفاعيل معلومة و رويّ واحد ، بل صار البيت سطراً يلتزم تفعيلة محدّدة دون أدنى حساب لعددها و لا تقيّد برويها الواحد ، أو التمسك به أحياناً . و انتقلت القصيدة الجديدة أيضاً من وحدة البيت إلى وحدة النصّ مجتمعاً . أمّا المعاصرون اللاحقون فأكثرهم تخلّوا عن التفعيلة الواحدة المعتمدة ، أي أنهم استغنوا عن الموسيقى الرتيبة المتولدة عن تكرار تفعيلتها والايقاع الذي يتولّد من تركيب اللفظ نفسه و موقعه في تأليف الجملة ، و من الإيقاع النفسي الذي تخلقه الصور البكر في السمع و القلب معاً . ذلك أن موسيقى الخليل بن أحمد لم تعد ركناً من أركان الشعر . فلهؤلاء الشعراء رأي في الشعر يختلف عن رأي ارسطو و من جاء بعده من المنظّرين العرب في تقسيمه إلى نثر ، و هو ، الكلام المطلق من كل قيّد ، و شعر و هو الكلام المقيّد بالوزن و القافيّة ، أي على رأي أحد الشعراء الفرنسيين : النثر مشيٌّ و الشعر رقصٌ .
و عند هؤلاء المعاصرين الجدد : كلّ كلام إبداعي شعر و لا داعٍ للوزن و الموسيقى و القافية لتصنيفه شعراً ، و ما عدا ذلك فنثرٌ كالقصّة و المقالة و البحث على أنواعه ، و الرسالة
و النقد... و من أدلتّهم على ذلك نشيد الأناشيد لسليمان الحكيم فاذا قرأته مترجماً نثراً تحسّ انك تقرأ أعظم قصيدة غزلية في العزّة الالهية كتبت حتى الآن ، لما فيها من وصف تعبّر عنه صور هي – على شيوعها – مبتكرة في تركيبها و ترتيبها ، فقِصرُ الجمل التي حملتها ، و رشاقة مفرداتها التي تؤلف مناخاً موسيقياً يتوازى في السمع و القلب مع معانيها و مقاصدها ، مع العلم أنها مكتوبة شعراً بلغتها الأصلية . و الأمثلة على مثل نشيد الأناشيد لا تحصى في العربيّة أو في بعض المنقول من المتون الأجنبيّة لأنّها تحمل صفة الإبداع creation أي الاتيان بما لا مثيل له ، أو الابتداع invention أي إبتكار على غير مثال سابق .
من هذا المنحى في الكتابة نلِجُ عالَمَ دانية بقسماطيّ الشعريّ .
لا بدّ لي من أن أُشير إلى أنّ هذه المجموعة الشّعريّة ليست بحاجة إلى تقديم بعدما سبقتها سنة 2006 مجموعة أولى بعنوان " عَبَرَ ... من هُنا " لفتت انتباه المهتمّين بالمحاولات الجادّة نقّاداً و متذوّقين ، و قُرّظت بكلام محكيّ و مكتوب هو – على قلّته – قمينٌ بالتقدير لِمَا في طيّاته من تفاؤل و استبشار باطلالة شاعرة شابّة أفلحتْ بانطلاقتها الأولى في أن تنحوَ بالصّورة الشّعريّة نحْوَاً تماهت مع صُوَرِ أشياخٍ عندنا طَوَوا العمر في هندسة البناء الشعريّ تجديداً و ابتكاراً.
و لكنها حفلت بمواجع بالغة الألم حطّت في جلجلان قلبها زَمَن اليفاع و لّما تخرج من قمّعِ أذنيها بَعْدُ بتمامها لهذا فانّ نُضاضة من سواد الماضي صبغت صفحات هذا الديوان إلى جانب رماديٍّ مفضٍ إلى بياضٍ مبلّلٍ بالفرح و الأمل بالحياة الواعدة ، و لستُ أخشى على هذا النّسج المعاصر الذي تحوكه الشاعرة من براثن الماضويّ و هراشِهِ لتمزيقه و الحكم على بطلانه بدافع من خلفيته الحاقدة على كلّ جديد ...
و إذا اتّفق لمثله أن تعامل مع نص شعريّ معاصر من النوع الذي أمامه مثلاً ، ليس مكتوباً بحبر دواته ، و لا هو من ذائقة زمنه العاتم ، و استغلق عليه سرّ مفتاحه لتدبّر فتح قُفْلِهِ ، اعتقد، وهماً ، أنّه أمام نصّ تعدّد وجهُ حرفه ، فَحَار على أيّ حرفٍ يقع ، و استبدّ به تردّدٌ و ارتباك لاشتباهه بأنّ الحرف الذي رَسَبَ عليه جهدُهُ ليس واثقاً من صحته أو خطأه ، فيكفرُ بالمعاصرة شعراً و حرفاً و أداءً ، و يرتدّ إلى كهفه و حصيره و خَلَقِ أطماره ، بإزاء تَرَفٍ ، و ثير يرفد به الآخر ... إن اكتشاف الذّات ، و الغوص في عمق ما يعتريها من تمزّق أو ما تشعر به من سعادة هما ، على مضيض الأوّل ودَعَةِ الثّانية ، حافزان على البحث عن طُرُقٍ في الخلّقِ جديدة ، و وسائل في التّعبير فريدة ، ذلك أنّ الشاعر الذي تبعّضَ بين أشواك الحضارة المعاصرة و أريج زهرها كيانُهُ ، ألزمُ في ممارسة إبداعه بفنه و عقله لكشف ذلك من الفيلسوف الذي يعالجه بعقله دون فنّ ، و قد توزّعت الفنون المعاصرة ، و على رأسها الشعر ، في مدارس و مذاهب ، تمازجت في شعر دانية بقسماطي تمازجاً يصعب تحديد مقداره و إنْ يكن لأحدها غلبة ظاهرة :
- فالتعبير عن العواطف و الأفكار بالتلميح عِوَض الأسلوب التقريريّ المباشر قادها إلى ساحل الرمزيّة symbolisme ،
- و إحياؤها الطبيعة ، و خلعُ روح إنسانيّة عليها يجعلانها تشعر، و تفرح ، و تتألّم ،
و تحاور، و تصادق ... أدخلها في رحاب الإحيائيّة Animisme ،
- و أساس هذا الاتّجاه في إحياء الطّبيعة بما فيها من سماء و شمس و غيوم و برق ورعد... و الأرض و ما عليها من جبال و سفوح و أودية و أنهار و سواقٍ و شجر
و زهرٍ و ثمرٍ ... و الارتماء في أحضانها ... هو أحد عناصر الرومانسيّة Romantisme ،
- و انتقالها من العمل في ميدان الطّبيعة الخارجيّة إلى العمل في ميدان الطّبيعة
الانسانيّة داخلَ الذات نقلها إلى التجريد Abstractionnisme ،
فضلاً عن ظاهرتين بارزتين في ثنايا بعض النصّوص هما :
- تعارض مشاعرها و أفكارها مع معظم مشاعر مَنْ يحيطون بها و أفكارهم ، ممّا حملها على الشّعور بالوحدة و الوحشة Me Lencolie ،
هذا التّعارض في مشاعرها مع الآخرين ضمنَ المجتمع الذي تعيش فيه ملأها بالشّعور بالوحدة كذلك Sentiment De Solitude ،
لكنّ الغربة و الوحدة اللتين تغلغلتا في حناياها و انعكستا على بعض شعرها لن تجعلاه محبوساً عليها وحدها ، فكلّ مَنْ يقربها في نشأته و تربيته و تركيبه النّفسيّ ، و الشعور المرهف ، يَجدُ في شعرها ما يمثّله في غربتها و وحشتها ، ما عدا الموهوبين منهم فسيكون لهم أبجديّة أكثر اتّصالاً بتغيّر الزّمن و محنه . و باستثناء هاتين الظّاهرتين، فإنّ صورها الشّعريّة مشبعّة ببريق من الأمل و الفرح ، مُطِلّةٌ على آتٍ شامس ترتاح فيه من ليالي الهواجس و كوابيس الأفكار المزعجة ...
يبقى أن ثمة سؤالاً يُطرح و لا بُدّ له من جواب و هو :
لمن تكتب دانية بقسماطي ؟
هل هي من أصحاب الالتزام Engagemene تكتب للشّارع و جماهيره ؟
بالتأكيد لا ، فحسّها السّياسيّ و الاجتماعيّ بالمعنى الشّائع الذي بَلَغَ حدّ الابتذال لا أثر له في نفسها , كلّ ما في الأمر أنّها عربيّة النّجار و تحبّ وطنها أشدّ الحبّ ،
أم تُراها من أنصار مدرسة الفنّ للفنّ L art pour L art تكتب الشّعر لغاية جماليّة ؟
واقع الأمر أنّها تتوخّى الجمال في ما تكتب على سبيل الموائمة السّائغة بين الحرف (المعنى) و رسمه (أدائه) لا إرضاء للفنّ بحدّ ذاته . و بكل بساطة ، و بعيداً عن أيّ تنظير مُفْتَعَلٍ ، إنّ الشّاعر في المطلق أكبر من المذاهب و العروض ، و ما اللغة السّليمة إلاّ وسيلة إفصاح جماليّة لتجربة ذاتيّة أو إجتماعيّة أو إنسانيّة يعانيها و يعبّر عنها بالطّريقة التي تفرضها المعاصرة .
ترى ، أوَ لم تفعل هذه الشّاعرة ذلك حين أفاضت تجربتها الذّاتية ذات البعدين الاجتماعيّ و الانسانيّ على ورقات أزهرت صفحاتها البيض ، فشاع فوقها الأسود و الأحمر
و الأصفر و الأخضر ...
و بعد ، ما أحوجَ مدينةً ما عادت فيحاء ، تختنق برحيل ليمونها و زهرِهِ و فَوْحِهِ ، إلى دوانٍ و دانين ، يملأون أرجاءها بشجرِ شعرٍ ذي زهر نضير و فوح جديد .
طرابلس – لبنان في2/5/2010
العبيدي جو- المديـر العــام
-
عدد الرسائل : 4084
تاريخ التسجيل : 28/08/2008
مواضيع مماثلة
» قصائد في ألياف الماء ديوان جديد للشاعرة المغربية نجاة الزباير
» دعوة لحضور توقيع ديوان "غبطةُ النَّحْتِ على أقدامِ الرّيَاح"
» غبطةُ النحتِ على أقدامِ الرياح - 2 -
» ديوان أول للسورية وجيهة عبد الرحمن
» من ديوان خربشات ... " من أكون "
» دعوة لحضور توقيع ديوان "غبطةُ النَّحْتِ على أقدامِ الرّيَاح"
» غبطةُ النحتِ على أقدامِ الرياح - 2 -
» ديوان أول للسورية وجيهة عبد الرحمن
» من ديوان خربشات ... " من أكون "
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى